كتابات وآراء


السبت - 02 أغسطس 2025 - الساعة 11:28 م

كُتب بواسطة : د.مريم العفيف - ارشيف الكاتب



بوصلة القيادة في المؤسسات بين رؤية الله في العمل وتفشي الفساد الإداري


---

مقدمة

في زمن تتسارع فيه التغيرات، وتتزايد التحديات التنظيمية، يبرز الدور الحاسم للقيادة المؤسسية الفعالة كعنصر أساسي في نجاح المؤسسات وتمكينها من تحقيق أهدافها. لكن الواقع المؤسسي يؤكد أن انهيار المؤسسات لا يكون غالبًا بسبب نقص الموارد أو الأزمات الخارجية، بل بفعل بيئة داخلية سامة تولدها قيادات إدارية غير ناضجة وسلوكيات بعيدة عن المبادئ والقيم الأخلاقية.

إدارة المؤسسة ليست مجرد تنظيم للمهام والعمليات، بل هي منظومة متكاملة تجمع بين الرؤية الواضحة، القيادة الحكيمة، ثقافة مؤسسية صحية، وأخلاقيات عمل راسخة. ويأتي في صلب هذه المنظومة "رؤية الله في العمل" كمنهج أخلاقي وإداري يوفر البوصلة التي توجه القائد والمؤسسة نحو الإتقان، النزاهة، والعدل.


---

أولًا: قواعد العمل المؤسسي الصحيح

العمل المؤسسي يشكل حجر الزاوية لأي كيان ناجح، وهو أبعد من مجرد تنظيم إداري؛ إذ يتطلب إرساء قواعد ثابتة من المبادئ والإجراءات تشمل:

1. الحوكمة الرشيدة:
تعتمد على الشفافية، المساءلة، المشاركة، ما يعزز الثقة ويضمن الاستخدام الأمثل للموارد.


2. الهيكل التنظيمي الواضح:
ضرورة تحديد خطوط الصلاحيات والمسؤوليات بدقة لمنع التضارب والتداخل، ما يحفظ النظام ويعزز الفاعلية.


3. الرؤية والاستراتيجية الواضحة:
مؤسسات بلا رؤية ورسالة واضحة، أشبه بمركب في عرض البحر بلا بوصلة، لا تملك اتجاهًا ثابتًا.


4. عدالة التوزيع وفرص التمكين:
منح الفرص بناءً على الكفاءة والجدارة لا على الولاء الشخصي، مع ترسيخ ثقافة الإنصاف في التقييم والترقيات.


5. نظم المتابعة والتقييم:
لا يمكن تطوير الأداء دون مؤشرات دقيقة وشفافة تقيس النتائج وتعزز التحسين المستمر.



هذه القواعد تشكل الإطار الصلب للعمل المؤسسي الصحيح الذي يعزز استدامة الأداء ويقوي مناعة المؤسسة ضد الانهيارات الداخلية.


---

ثانيًا: القائد والإدارة بين المفهوم والدور

القائد الناجح هو محور العملية الإدارية، فهو ليس فقط صاحب قرار، بل حامل رؤية، باني فريق، وحارس قيم المؤسسة. وفي هذا الإطار:

المدير يركز على الأنظمة، التنظيم، والمخرجات.

القائد يركز على البشر، الثقافة، والتحفيز.


القيادة الناجحة هي مزيج بين الرشادة الإدارية والقدرة على الإلهام والتحفيز. فالأداء المؤسسي لا يتشكل بمعزل عن شخصية القيادة، بل هو انعكاس مباشر لقيمها وأسلوبها في التعامل مع التحديات.


---

ثالثًا: البيئة السامة… حين يصبح القائد هو العلة

البيئة السامة ليست صدفة، بل هي نتاج مباشر لسلوكيات القيادة غير المسؤولة. ففي ظل قيادة استبدادية أو متغطرسة، تنشأ بيئة عمل يعمها الخوف، الغموض، الصراعات الداخلية، وكبت المبادرات.

هذه البيئة السامة تتجلى في:

انتشار الخوف والتوجس بين الموظفين.

كبت الأفكار والابتكار.

استبدال الكفاءة بالولاءات الشخصية.

تفشي الصراعات الداخلية بسبب غياب العدالة والشفافية.


وغالبًا ما يكون القائد أو المدير نفسه هو من أنتج هذه البيئة، من خلال أسلوبه الإداري أو غياب الوازع الأخلاقي، مما يحول المؤسسة إلى مكان قاتل للإبداع والالتزام.


---

رابعًا: كيف نصنع بيئة مؤسسية صحية؟

للبناء على قواعد العمل المؤسسي الصحي، يجب التركيز على:

1. التقييم الدوري لأداء القادة:
محاسبة شفافة ومنتظمة لضمان الأداء الرشيد.


2. تمكين الموظفين من التعبير:
خلق مناخ آمن يخلو من الخوف والعقاب.


3. تعزيز ثقافة الشفافية:
في جميع المستويات، خصوصًا في القرارات الإدارية والمالية.


4. بناء مسار تطوير مهني حقيقي:
يمنح الموظفين أملًا وطموحًا مستدامًا.


5. فصل الشخصنة عن العمل:
ضمان أن المؤسسة ليست ساحة صراعات شخصية أو نفوذ خاص.



هذه الخطوات تخلق مناخًا مؤسسيًا يدعم الابتكار ويعزز الولاء المؤسسي، ويرفع من جودة الأداء.


---

خامسًا: الأخلاق في العمل المؤسسي… الجدار الأخلاقي الذي يحمي المؤسسة

الأخلاق ليست رفاهية، بل هي الأساس الذي يحفظ كرامة العامل ويقي المؤسسة من الفساد والانهيار. من قيم العمل المؤسسي الأساسية:

النزاهة: العمل وفق الضمير.

الشفافية: قول الحقيقة ووضوح الإجراءات.

الاحترام: التعامل بكرامة.

العدل: توزيع الحقوق بدون محاباة.

الصدق: في جميع التعاملات والتقارير.

المسؤولية: تحمل النتائج والاعتراف بالأخطاء.


بدون أخلاق، يتحول القائد إلى خطر على المؤسسة، إذ تصبح السلطة أداة للظلم والقمع، والقوة سببًا للتسلط لا المسؤولية.

لذلك، يجب أن تكون الأخلاق جزءًا لا يتجزأ من نظام التقييم والرقابة داخل المؤسسة، مع توفير آليات الإبلاغ الآمن وممارسة القدوة من الأعلى.


---

سادسًا: رؤية الله في العمل… جوهر الأخلاق المؤسسية

تأتي قاعدة "أن تعمل وكأنك ترى الله، فإن لم تكن تراه فإنه يراك" في قمة مدارج السلوك المهني، فهي تحوّل العمل إلى رسالة تحمل أسمى معاني الأمانة والإتقان والعدل.

تترجم هذه الرؤية إلى واقع مؤسسي من خلال:

الإتقان والجودة: ليس لأجل التقييم، بل لرضا الخالق.

الأمانة: في حفظ الموارد، الوقت، والبيانات.

العدل والرحمة: في القرارات والتعاملات.

الصبر والإخلاص: النية الصافية فوق كل اعتبار.

القيادة بالضمير: عدل وشمولية في التعامل.


حين تغلغلت هذه القاعدة في نسيج المؤسسة، تختفي البيئة السامة تلقائيًا، وينمو مناخ العمل الصحي القائم على احترام القيم والكرامة.


---

خاتمة: البوصلة لا تكذب

البيئة المؤسسية هي مرآة لقيادة المؤسسة. فإذا صلحت القيادة صلحت البيئة، وارتفع الأداء، وترسخت القيم، والعكس صحيح.

وليس كافيًا أن تتوفر أدوات الإدارة الحديثة، بل لا بد من زراعة روح القيادة الأخلاقية المسؤولة، والرؤية التي تجعل من العمل أمانة ومسؤولية تُرى في كل تفصيل.

في النهاية، بوصلة القيادة التي ترتكز على رؤية الله في العمل هي الفارق بين مؤسسة تُحيي مجتمعها، وأخرى تُميت فرص النجاح والإبداع.