الأحد - 28 ديسمبر 2025 - الساعة 05:56 م بتوقيت عدن ،،،
4 مايو / حافظ الشجيفي
في قراءة المشهد السياسي الذي تضطرب به رمال حضرموت اليوم، نجد أنفسنا أمام ضرورة ملحة لاستعادة بوصلة المنطق التاريخي، والبحث في جوهر الأشياء بعيدا عن صخب الانفعال اللحظي، إذ أن السياسة في معناها العميق ليست مجرد استعراض للقوة أو رفع للشعارات، بل هي فن قراءة اللحظة الفارقة والالتزام بكلمة الشرف التي تعقدها الشعوب مع مصيرها. ونحن نقف الآن أمام حالة تستدعي التأمل، حيث يحاول البعض القفز من سفينة الإجماع الوطني إلى قوارب التجزئة الضيقة، متناسين أن وحدة الهدف هي الضمانة الوحيدة للعبور نحو شاطئ الدولة والمؤسسات، وأن أي خروج عن هذا النسق تحت مبررات هي في جوهرها محسومة ومنجزة، سلفا لا يمكن وصفه إلا بكونه تمردا على الإرادة الشعبية التي صاغت بوعي وحرص ملامح المستقبل المشترك.
وعندما نعود بالذاكرة إلى اللقاء التشاوري الجنوبي الموسع الذي احتضنته العاصمة عدن في عام ألفين وثلاثة وعشرين برعاية المجلس الانتقالي الجنوبي ، ندرك حجم الجهد الفلسفي والسياسي الذي بذل لصياغة الميثاق الوطني الجنوبي، ذلك العهد الذي لم يكن مجرد وثيقة ورقية بل كان تجليا لحكمة الجنوبيين في لحظة صدق تاريخية. ولقد تشرفت بكوني أحد أعضاء لجنة صياغة هذا الميثاق التي ترأسها القاضي الحضرمي النزيه شاكر محفوظ، وضمت في قوامها أغلبية ساحقة من الكفاءات والشخصيات الحضرمية التي تمثل كل أطياف المجتمع الحضرمي، حيث خضنا نقاشات عميقة ومداولات طويلة اتسمت بالشفافية المطلقة، وكان الهاجس الأكبر الذي سكن وجداننا هو إنصاف حضرموت وتثبيت مكانتها وهويتها وخصوصيتها السياسية والاقتصادية في شكل الدولة القادمة. حيث منح الميثاق الوطني حضرموت حقوقا تتجاوز بكثير ما يرفعه البعض اليوم من شعارات، ورسم لها طريقا للسيادة على أرضها ومواردها ضمن شراكة وطنية عادلة لا تستثني أحدا، مما يجعل أي ادعاء بأن حقوق حضرموت منسية هو ادعاء يفتقر إلى الحجة والبرهان.
ومن هنا نطرح التساؤل الجوهري الذي يفرض نفسه بقوة في الاذهان: لماذا يختار عمرو بن حبريش التوقيت الراهن ليشهر سلاح المطالب التي تم إقرارها والتوقيع عليها بالإجماع قبل أكثر من عام؟ فظهور بن حبريش في منتصف عام ألفين وأربعة وعشرين متبنيا لمطالب هي أصلا مدرجة ومحسومة في الميثاق الوطني، يثير ريبة سياسية لا يمكن تجاهلها، إذ كيف لمن يدعي تمثيل حقوق أهله أن يحلق خارج السرب منفردا بينما الإجماع الجنوبي والحضرمي قد وضع الأساس المتين لهذه الحقوق؟فإثارة القلاقل في ربوع حضرموت تحت هذه الذرائع تبدو وكأنها محاولة لخلق أزمة من لا شيء، أو بالأحرى هي انسلاخ عن الشرعية الثورية والشعبية التي يمثلها المجلس الانتقالي الجنوبي،
إننا بصدد حالة من التمرد الصريح على الإرادة الجمعية، فالمجلس الانتقالي لا يمارس عدوانا على أحد، بل يمارس سلطته الأخلاقية والقانونية المستمدة من تفويض الجماهير التي تملا ساحات المكلا وسيئون اليوم اعتصاما وتأييدا لخطواته، وهي جماهير تدرك بحسها الفطري أن حقوقها لا تؤخذ عبر افتعال الأزمات أو شق الصف، بل عبر التلاحم مع المشروع الوطني الجامع. فبن حبريش بوقوفه في وجه هذه الشرعية الشعبية يضع نفسه في موقف المحارب لطموحات أهله الحقيقية، خاصة وأن ما يطالب به اليوم هو في الواقع أقل بكثير مما كفله له الميثاق الذي شارك الحضارم في صياغته حرفا بحرف. وهذا التناقض الصارخ يكشف أن الهدف ليس الحقوق في حد ذاتها، بل هو البحث عن دور سياسي خارج إطار الشراكة والعدالة التي تم التوافق عليها.
إن المجلس الانتقالي الذي ظل وما يزال يمد يد الحوار، لم يكن يوما باغيا أو معتديا، بل كان صبورا في تعامله مع هذه الانحرافات، وحين اضطر لاستخدام أدوات القوة، فإنه مارس حقه الشرعي وسلطته الثورية لحماية الشعب من الانقسام، فالتهاون مع من ينسلخ عن الإجماع الوطني هو تفريط في أمانة الدماء والتضحيات، والشرعية الثورية ليست مجرد رتب أو مناصب، بل هي الالتزام بوحدة الصف والوقوف في وجه كل من يحاول العبث بوحدة النسيج الجنوبي، وضمان ألا تتحول المطالب العادلة إلى مطية لضرب المشروع الوطني في مقتله، ولذا يظل الميثاق الوطني هو المرجعية، والإجماع هو الحصن، وكل ما دونهما ليس إلا ضجيجا سيتلاشى أمام صلابة الحق والإرادة الشعبية التي لا تلين.