الجمعة - 26 ديسمبر 2025 - الساعة 07:46 م
النفوس الكبيرة لا تخدعها زخارف القول حين تمتحنها حقائق الفعل، والحق الذي لا يستند إلى قوة تحميه قد يضيع، ولكن القوة التي لا تستند إلى حق هي أهون من بيت العنكبوت وإن سكنت عنان السماء، والناظر في تصاريف السياسة وجدليات الحكم يدرك أن المبدأ لا يتجزأ، وأن الكلمة أمانة قبل أن تكون أداة للمناورة أو حبرا يراق على صفحات البيانات السياسية المنمقة، بيد أن ما شهدناه من تناقض صارخ بين منطق اللسان وفعل السنان يضع العقل البشري أمام معضلة منطقية لا تستقيم مع طبائع الأمور، ذلك أنه لم يكد يمضي على بيان الخارجية السعودية أربع وعشرون ساعة، وهو البيان الذي ترنم بمفردات الوئام تحقيق السلام ونبذ القوة وتخفيض التصعيد وقدم الدولة السعودية في ثوب الحكمة والرصانة كشقيقة كبرى تروم مصلحة الجميع، حتى انبرى الطيران الجوي التابع لها ليمزق تلك الصحائف بلهيب القذائف التي استهدفت النخبة الجنوبية وهي تذود عن ترابها وسيادتها وثرواتها، فكيف يستقيم في ميزان العقل أن يلبس المرء ثياب الوعاظ وفي يده خنجر الغدر، وكيف يتقبل الوعي الجنوبي وسيطا قرر أن يكون هو الخصم والحكم في آن واحد،فالقوة التي تفرض الحلول القسرية هي اعتراف ضمني بالعجز عن الإقناع، والوسيط الذي يلجأ للحديد والنار ضد حلفائه إنما يكتب شهادة وفاته السياسية بيده، إذ لا يمكن لليمنيين أو الجنوبيين على وجه الخصوص أن يروا فيمن يمارس الدموية طرفا محايدا أو مصلحا يرتجى منه خير، والواقع المر يفرض تساؤلا أخلاقيا وفلسفيا عميقا، أين كانت هذه الجوارح الكاسرة حين اغتصب الحوثي الأرض والعرض وضرب العمق الاستراتيجي السعودي وأحرق المنشآت الحيوية في عقر دارها، وكيف تضل الصواريخ طريقها عن المعتدي الحقيقي الذي أحرق الأخضر واليابس لتستدير نحو الصدور التي كانت ولا تزال درع العروبة الحصين وشريك المصير الذي لا يلين، فهذا الانحراف في البوصلة العسكرية والسياسية ينم عن تخبط لا يليق بدولة تنشد السلام، وكان الأجدى بها لو صدقت النوايا أن تذخر هذا البارود لكسر شوكة البغي في الشمال أو لترتيب البيت المهترئ هناك عبر تسويات داخلية تنهي حالة الشتات تمهيدا لصلح تاريخي مع الجنوب يحترم إرادة شعبه وحقه في تقرير مصيره، أما أن تستعرض القوة فوق رؤوس الأحرار الذين لم يخذلوها يوما، فهو فعل يدفع بالشعب الجنوبي إلى الكفر بكل الحلول التي تأتي عبر هذا المسار المشبوه، فالجنوبيون قوم لا يرهبهم السلاح ولا يلينهم الوعيد، وقد علمتهم الأيام أن السلام الذي يقوم على أنقاض القوة هو استعباد مغلف بوعود زائفة، والتاريخ ينبئنا أن إرادة الشعوب صخرة تتحطم عليها أعتى الصواريخ، ومن لا يملك السلام في روحه ومنهجه لن يستطيع أن يمنحه لغيره، إذ ان فاقد الشيء لا يعطيه، والقوة لا تصنع حقا بل تحميه، فإذا تخلت القوة عن الحق وتحولت إلى أداة للقمع والجور سقطت هيبتها في النفوس قبل أن تسقط في الميادين، والشعب الجنوبي الذي استوعب الدرس جيدا لن يقبل وصاية تفرضها الطائرات ولا حوارا يعقد تحت تهديد البوارج، فالسلام العادل هو الذي ينبع من الحكمة والحرص والتقدير المتبادل، أما لغة الدم فهي لغة العاجز الذي لم يجد في جعبته غير الرصاص، والجنوب اليوم يخط بدمائه ردا صريحا بمحتوى أن السيادة لا تباع ببيانات الدبلوماسية ولا تكسرها غطرسة السلاح، وأن الحق باقي ما بقي في الصدور إيمان بقدسية الأرض وشرف الدفاع عنها.