الأربعاء - 06 أغسطس 2025 - الساعة 03:32 م
في لحظة جنوبية فارقة تتقاطع فيها التحديات الاقتصادية مع تعقيدات الواقع السياسي، يبرز الملف الاقتصادي كساحة معركة أشد ارتباطاً بحياة الناس واستقرارهم. وإذا كان المشروع الجنوبي قائماً على الهوية والسيادة، فإن صلابته تقاس بقدرته على بناء اقتصاد وطني منتج. ومن هذا المنطلق، تبدو خطوات الرئيس القائد عيدروس الزبيدي لحماية الاقتصاد ليست مجرد رد فعل ظرفي، بل جزءاً من مسار تأسيسي لتحرير الاقتصاد الوطني واستقلاله، وإعادة توجيه البوصلة نحو كسر منظومة الاحتكار والهيمنة.
لقد كشفت سنوات ما بعد 1994 عن عملية تدمير ممنهجة للاقتصاد الجنوبي، تم خلالها إقصاء الكوادر ونهب المؤسسات وطرد العمال تحت مسمى الخصخصة، وتحويل الثروات العامة إلى غنائم لصالح مراكز النفوذ، بما في ذلك مباني الدولة، وبلوكات النفط والغاز، والموانئ، والثروات السمكية والزراعية. لم يكن ذلك عبثاً، بل جزءاً من مخطط لفرض اقتصاد ريعي يبقي الجنوب تابعاً وهشاً، ويحرمه من أدوات الإنتاج والإدارة والسيادة.
في هذا السياق، لم تعد المعركة الاقتصادية مجرد شأن تقني أو خدماتي، بل أصبحت معركة وجود في وجه قوى الفساد والمضاربة الساعية لإجهاض كل مسار للتعافي. إنها ميدان لاختبار قدرة القيادة على حماية ما تبقى من الثقة العامة، وبناء مشروع وطني قابل للحياة. وتأتي تحركات الرئيس الزبيدي لضبط القطاع المصرفي، وكبح المضاربة، وتفعيل الرقابة المالية، كمؤشرات أولى على كسر احتكار مراكز التلاعب واستعادة زمام المبادرة.
تمثل تحركات القيادة السياسية اليوم بداية مبشرة وفي الاتجاه الصحيح، لتخفيف المعاناة الإنسانية والوقوف بوضوح في صف الشعب. غير أن التحدي الأكبر يتمثل في مواصلة السير نحو تحول استراتيجي، يخرج الجنوب من عباءة الاقتصاد الريعي القائم على الاستهلاك، إلى اقتصاد إنتاجي يعيد الاعتبار لثرواته الطبيعية وقدرات أبنائه. فالجنوب يمتلك كل المقومات اللازمة لهذا التحول؛ من موانئ استراتيجية ومصافي ومطارات، إلى ثروات نفطية وغازية، ومخزون سمكي وزراعي ضخم، فضلاً عن تجارب تعاونيات ناجحة كانت ضحية الحروب وسياسات الإقصاء. إن إحياء هذه المقومات، إلى جانب تنشيط الصناعات الصغيرة والمتوسطة، يشكل مدخلاً ضرورياً لبناء منظومة اقتصادية مستقلة، تنطلق من الأرض وتضع الإنسان في قلب معادلة التنمية.
وتتجسد هذه الرؤية عملياً في الجهود الرامية إلى إعادة تشغيل مصافي عدن بكامل طاقتها، باعتبارها خطوة استراتيجية لتقليل الاعتماد على الاستيراد، وتحقيق قدر من السيادة في ملفات الكهرباء والمياه. فاستثمار المصافي ليس مجرد مسألة فنية، بل رافعة سيادية تسهم في تحفيز قطاعات حيوية، وتوفير بيئة مشجعة لبناء صناعات تحويلية مرتبطة بالنفط والغاز، تعزز من قدرة الجنوب على حماية موارده وتوسيع قاعدته الإنتاجية.
وهذا المسار لن يكتمل دون استعادة مؤسسات الدولة، وتوريد كافة إيرادات المحافظات إلى البنك المركزي في عدن، وتحرير القرار الاقتصادي من هيمنة مافيات الفساد، وإشراك القطاع الخاص الوطني في خطط تنموية واضحة وشفافة تعيد تعريف دور الدولة كضامن للعدالة والمصلحة العامة، لا شريكاً في الإفساد أو التواطؤ. ورغم صعوبة الطريق، إلا أنه السبيل الوحيد لبناء وطن قوي، لا يتسول حقوقه، ولا يرتهن للآخرين من بوابة الخدمات أو العملة.
إن معركة الاقتصاد هي جوهر معركة الدولة. واستعادة الثروة ليست ترفاً، بل استحقاقاً سيادياً لا بديل عنه. الجنوب لا يحتاج إلى حلول ترقيعية أو إسعافية، بل إلى مشروع وطني شامل يعيد ترتيب العلاقة بين الإنسان والثروة، وينطلق من المعاناة ليصوغ نموذجاً اقتصادياً مستقلاً، يستجيب لتحديات الحاضر، ويؤسس لعدالة المستقبل.