الثلاثاء - 30 ديسمبر 2025 - الساعة 11:33 م بتوقيت عدن ،،،
4 مايو/ حافظ الشجيفي
حين تقف السياسة امام مرآة التاريخ، فانها لا تبحث عن ملامح الوجوه، وانما تفتش عن صلابة الجوهر واستقامة المسار، والحاصل ان المشهد الذي نرقبه اليوم في هذه الرقعة الاستراتيجية من الجغرافيا العربية يضعنا امام تساؤلات تتجاوز منطق المناورة لتلامس عمق الحقيقة الغائبة خلف ركام الاتفاقات الورقية. فالمتأمل في تاريخ ما سمي بالمبادرة الخليجية، يكتشف للوهلة الاولى انها ولدت في غرف الانعاش السياسي لتدارك انهيار منظومة الحكم في صنعاء، بيد انها سقطت في فخ التجاوز الدستوري حين اغفلت تماما -وعن قصد ربما- انه لا يوجد في ثنايا بنودها او نصوصها ما يشرع نقل السلطة من رئيس الى مجموعة رؤساء، او من رئيس الى اخر عبر تسويات لا تستند الى ارادة شعبية مباشرة، بل ان تلك المبادرة ذاتها حددت عمرا افتراضيا لفترة عبدربه منصور هادي لا تتجاوز عامين، تنتهي بانتخابات ديمقراطية تنافسية نزيهة وواسعة، وهو ما لم يحدث قط، مما جعل بقاءه في السلطة وما تلاه من ترتيبات مجرد استمرار لشرعية وهمية لا صلة لها بصحيح القانون او نصوص الوثائق التي يتشدق بها البعض.
فيما تفرض علينا الحقائق المريرة ان نعيد قراءة مشهد الانتخابات التي جرت لهادي بعد تسلمه السلطة من سلفه صالح، اذ كيف يمكن وصف عملية انتخابية بالشرعية وهي تفتقر لادنى مقومات التنافس الديمقراطي بمرشح وحيد يسابق ظله، ناهيك عن ان نسبة المشاركة في الشمال كانت ضئيلة للغاية، ولم تتجاوز في اقصى تقديراتها ستين في المئة من المسجلين، في كشوفات القيد والتسجيل رغم كل ما مورس من تزوير وحملات اعلامية وابتزاز وترغيب، وفي المقابل، كان الموقف في الجنوب حاسما وواضحا بالمقاطعة التامة لها، ليس رفضا لشخص وانما لعملية سياسية لا تعنيهم ولا تلبي طموحاتهم، مما يثبت ان اتفاقات نقل السلطة المتعاقبة، وصولا الى مجلس القيادة الرئاسي، لا تقوم على اساس دستوري سليم، وان الجنوبيين الذين لم يكونوا طرفا في المبادرة الخليجية ولا في حوار صنعاء اللاحق، ليسوا ملزمين اخلاقيا او قانونيا بكل ما ترتب على تلك الاحداث من نتائج ومسؤوليات، خاصة وان الحوثي قد اجهز على تلك المبادرة وانقلب عليها، مما افقدها مشروعيتها حتى في منبتها بالشمال.
وبينما كانت صنعاء تغرق في صراعات مراكز القوى، كان الجنوب يخوض نضالا من نوع اخر، بدأ حراكا سلميا في عام الفين وسبعة ضد نظام صالح، وتوج بكفاح مسلح وملاحم ضارية حين حاول الحوثي اجتياح الارض الجنوبية، فقدم ابناء الشعب الجنوبي قوافل من الشهداء، لا من اجل شرعية هادي التي لم يعترفوا بها يوما، ولا من اجل وحدة قتلت في النفوس قبل ان تسقط في الميدان، وانما من اجل استعادة دولتهم وهويتهم، ومن هنا،فقد وجد المجلس الانتقالي الجنوبي الذي انبثق من رحم هذا النضال وبتفويض شعبي واسع، نفسه شريكا في مجلس القيادة الرئاسي لا بوصفه تابعا، بل كطرف اساسي يمثل ارادة شعب وجغرافيا محررة، وهو وجود املته ضرورة تأمين المصالح الجنوبية وامن الجزيرة العربية، دون ان يعني ذلك التزاما بتحرير جغرافيا الشمال او خوض معارك الاخرين بالنيابة عنهم، اذ ان حدود تفويضه تنتهي عند تطلعات شعبه في الاستقلال.
وما يثير الدهشة والاستغراب هو ذلك السلوك السياسي الذي يسلكه رشاد العليمي اليوم، حين يصدر قرارات احادية الجانب، متناسيا ان شرعيته مستمدة من اتفاق نقل السلطة الذي هو في الاساس اتفاق سياسي توافقي وليس دستوري وانفراد طرف فيه باصدار اي قرارات دون موافقة الطرف الاخر عليها يلغيها وينسف الاتفاق برمته ، اذ ان انفراط عقد التوافق مع المجلس الانتقالي يعني بالضرورة انهيار هذه الشرعية تماما، فالعليمي الذي يقود سلطة عجزت طيلة عقد من الزمان عن تحرير شبر واحد في الشمال رغم الدعم الدولي والاقليمي الهائل، يذهب بعيدا في اصدار قرارات بطرد الامارات، وهي قرارات باطلة من منظور الواقع والقانون، فالتدخل الذي تم بدعوة من هادي كان في الاصل محل شك في دستوريته، وفقا للاعتبارات التي ذكرناها اعلاه واعتبارات اخرى لم نذكرها واذا كان التدخل تم بموجب القرارات الدولية فان العليمي ينتهكها بقراره هذا، فضلا عن ان الامارات تقدم دعما عسكريا لمواجهة عدو مشترك، والشرعية التي لا تسيطر على الارض لا تملك حق الوصاية على من حررها.
المعادلة واضحة لا تقبل اللبس، فالمجلس الانتقالي هو صاحب الشرعية الشعبية والسياسية والانتصارات الميدانية، بينما تمثل قيادة العليمي حالة من "الشرعية اللاشرعية" التي تعيش في فضاء افتراضي، واي محاولة للاستقواء بالخارج لفرض قرارات احادية ضد الشركاء الحقيقيين لن تؤدي الا الى نسف ما تبقى من استقرار هش، فكيف للشرعية ان تواجه الحوثي وهي تطرد حلفاءها وتصطدم بصاحب الارض والتفويض.. والتاريخ يعلمنا ان الشرعية التي لا تحميها المبادئ ولا تدعمها الانجازات هي مجرد حبر على ورق، وان ارادة الشعوب هي القوة الوحيدة التي لا يمكن تجاوزها او الالتفاف عليها بقرارات لا تملك من امر الواقع شيئا.