الخميس - 13 نوفمبر 2025 - الساعة 07:48 م بتوقيت عدن ،،،
4 مايو / محمد القادري
في خطوة سياسية وقانونية لافتة، أرسى المجلس الانتقالي الجنوبي سابقة حضارية تؤكد نضجه السياسي والتزامه بسيادة القانون، وذلك عبر لجوئه إلى القضاء للدفاع عن مكانته وهيبته ككيان سياسي فاعل وشريك أساسي في السلطة.
ففي مطلع نوفمبر 2025، أعلن الفريق القانوني للمجلس الانتقالي الجنوبي عن رفع دعوى قضائية ضد الصحفي عبد الرحمن أنيس، بتهم تتعلق بـ "التحريض العلني والإساءة والتشهير". هذه الخطوة، التي قد تبدو للوهلة الأولى مجرد نزاع قانوني، تحمل في طياتها دلالات عميقة حول رؤية المجلس لدولة المؤسسات والقانون، وتؤسس لمرحلة جديدة من التعامل مع الإعلام، حيث يكون القضاء هو الفيصل بين حرية التعبير المسؤولة وبين التجاوزات التي قد تمس السلم العام وهيبة مؤسسات الدولة.
يأتي هذا التحرك في وقت يمر فيه الجنوب واليمن عموماً بظروف سياسية وأمنية معقدة، حيث تتناقض مساحات الحرية المتاحة في العاصمة عدن والمحافظات الجنوبية بشكل صارخ مع القمع الممنهج الذي تمارسه جماعة الحوثي في مناطق سيطرتها.
فبينما يختار المجلس الانتقالي الجنوبي، وهو شريك في مجلس القيادة الرئاسي والحكومة المعترف بها دولياً، المسار القانوني المنظم لحماية حقوقه، تغرق مناطق سيطرة الحوثيين في ظلام القمع، حيث لا صوت يعلو فوق صوت الجماعة، وتُكمم أفواه الصحفيين وتُغلق وسائل الإعلام المستقلة.
هذا التقرير لا يسلط الضوء على تفاصيل القضية المرفوعة ضد الصحفي أنيس فحسب، بل يغوص في أبعادها السياسية والقانونية، ويحلل السلوك الحضاري للمجلس الانتقالي كدليل على التزامه ببناء دولة جنوبية حديثة قوامها العدل والقانون. كما يؤكد على الصفة القانونية للمجلس ككيان سياسي له الحق الكامل في الدفاع عن سمعته ومؤسساته وكوادره، ويرفض بشكل قاطع أي محاولات لتصوير هذا الحق القانوني على أنه تضييق على الحريات. فالقانون ليس قيداً على حرية الصحافة، بل هو الضامن الذي يحميها من الفوضى وخطاب الكراهية، ويضع حداً فاصلاً وواضحاً بين النقد البنّاء والتحريض المجرّم.
*سلوك حضاري ونضج سياسي*
في مشهد سياسي اعتاد على لغة القوة وحسم الخلافات خارج إطار المؤسسات، جاء قرار المجلس الانتقالي الجنوبي باللجوء إلى القضاء ليمثل نقطة تحول ومنعطفاً مهماً في الممارسة السياسية في الجنوب. هذا القرار، الذي وصفه حتى الصحفي المعني بالقضية بأنه "نهج حضاري"، يعكس رؤية استراتيجية متزنة وواعية من قبل قيادة المجلس، التي تدرك أن بناء الدولة المنشودة لا يمكن أن يتم إلا عبر ترسيخ مبدأ سيادة القانون والاحتكام إلى مؤسساته.
لقد كان بإمكان المجلس، بما يمتلكه من نفوذ وقوات أمنية وعسكرية على الأرض، أن يسلك طرقاً أخرى أكثر سهولة وسرعة للتعامل مع ما اعتبره إساءة وتشهيراً بحقه.
كان بإمكانه اللجوء إلى التضييق الأمني أو الاستدعاءات غير الرسمية، وهي ممارسات للأسف لا تزال شائعة في المنطقة ويمارسها الحوثيون بشكل ممنهج لكنه اختار الطريق الأصعب والأكثر شفافية عبر القانون والقضاء. هذا الاختيار ليس عفوياً، بل هو رسالة واضحة للعالم أجمع بأن المجلس الانتقالي الجنوبي لا يسعى فقط إلى استعادة دولة، بل يسعى لبناء دولة مؤسسات حقيقية، دولة يكون فيها القانون فوق الجميع، ويكون القضاء هو الملاذ الآمن لكل من يعتقد أن حقه قد هُضم، سواء كان فرداً أو مؤسسة بحجم المجلس الانتقالي.
هذا السلوك الحضاري يكتسب أهمية مضاعفة عند النظر إلى السياق العام. فالمجلس، الذي يقود تطلعات شعب الجنوب نحو استعادة دولته، يثبت من خلال هذه الممارسة أنه أهل لبناء هذه الدولة على أسس حديثة ومدنية. إنه يرسل رسالة إلى الداخل والخارج بأن الجنوب القادم لن يكون نسخة مكررة من تجارب الماضي الفاشلة، بل سيكون نموذجاً لدولة تحترم الحقوق والواجبات، وتفصل بين السلطات، وتجعل من القضاء حكماً نزيهاً ومستقلاً.
علاوة على ذلك، فإن هذه الخطوة تقطع الطريق على كل المشككين الذين يحاولون تصوير المجلس الانتقالي على أنه مجرد فصيل مسلح.
فاللجوء إلى القضاء هو فعل تمارسه الدول والكيانات السياسية الراسخة التي تؤمن بالعمل المؤسسي. وبهذا، يؤكد المجلس الانتقالي على هويته ككيان سياسي منظم، يمتلك رؤية ومشروعاً، ويعمل بخطى مدروسة ومحكمة نحو تحقيق أهدافه الوطنية. إن هذا النضج السياسي هو ما يميز المجلس ويجعله شريكاً موثوقاً على الساحة الإقليمية والدولية، وقادراً على إدارة شؤون الدولة المستقبلية بكفاءة واقتدار.
*عدن تتنفس حرية.. وصنعاء تختنق تحت قمع الحوثي*
لفهم الأهمية الحقيقية للخطوة القانونية التي اتخذها المجلس الانتقالي الجنوبي، لا بد من وضعها في سياقها الأوسع ومقارنتها بالواقع المأساوي للحريات في المناطق الخاضعة لسيطرة ميليشيا الحوثي. فالفارق بين المشهدين ليس مجرد اختلاف في الدرجة، بل هو تناقض صارخ بين رؤيتين متنافرتين لمفهوم الدولة والمجتمع والإعلام.
في العاصمة عدن وبقية المحافظات الجنوبية، ورغم كل التحديات الأمنية والسياسية، لا يزال هناك هامش واسع من حرية الرأي والتعبير.
الصحفيون والناشطون يمارسون عملهم، ينتقدون أداء السلطات المحلية والمجلس الانتقالي نفسه، ويطرحون القضايا الخدمية والسياسية بجرأة. القضية المرفوعة ضد الصحفي عبد الرحمن أنيس هي الدليل الأبرز على ذلك؛ فالنقاش الدائر حولها، والتضامن الذي حظي به، وحضوره إلى النيابة للإدلاء بأقواله، كلها مشاهد لا يمكن تصور حدوثها في صنعاء. إن وجود نيابة متخصصة للصحافة والمطبوعات تنظر في الشكوى، هو بحد ذاته مظهر من مظاهر عمل مؤسسات الدولة التي يحترمها المجلس الانتقالي.
حتى عندما يرى المجلس أن هناك تجاوزاً لحدود النقد المشروع، فإنه لا يلجأ إلى الاختطاف أو الإخفاء القسري، بل يتبع المسار القانوني، مقدماً شكوى رسمية ومرفقاً بها ما يراه أدلة. هذا النهج، وإن كان محل جدل، إلا أنه يظل ضمن إطار الدولة والقانون، ويفتح الباب أمام الدفاع والتقاضي العادل، وهو ما يمثل ضمانة أساسية للحقوق.
على النقيض تماماً، حولت ميليشيا الحوثي المناطق الخاضعة لسيطرتها إلى سجن كبير للصحفيين وأصحاب الرأي. التقارير الدولية والمحلية تجمع على أن هذه المناطق أصبحت من أسوأ الأماكن في العالم لحرية الصحافة.
لا وجود لإعلام مستقل أو معارض على الإطلاق؛ فقد تم إغلاق جميع الصحف والمحطات الإذاعية والتلفزيونية التي لا تدور في فلك الجماعة، ومصادرة معداتها.
الصحفيون في مناطق الحوثي يواجهون مصيراً مرعباً حيث يواجهون الاختطاف من المنازل والشوارع، الإخفاء القسري لسنوات، التعذيب الوحشي في المعتقلات، والمحاكمات الصورية أمام محاكم غير مختصة تنتهي بأحكام إعدام جائرة، كما حدث مع عدد من الصحفيين.
لا توجد نيابة صحافة، ولا حق في الدفاع، ولا أي شكل من أشكال الإجراءات القانونية. التهمة جاهزة دائماً: "الخيانة" و"العمالة للعدوان"حتى أن مجرد كتابة منشور على فيسبوك لا يروق لأحد مشرفي الحوثي قد يكلف صاحبه حياته.
هذه المقارنة تكشف عن حقيقة جلية: المجلس الانتقالي الجنوبي، ككيان سياسي يشارك في السلطة الشرعية، يتعامل مع الإعلام من منطلق دولة تحاول تنظيم العلاقة بين الحرية والمسؤولية عبر القانون. أما الحوثي، كجماعة أيديولوجية شمولية، فيتعامل مع الإعلام من منطلق القمع المطلق والإلغاء التام لأي صوت آخر. إن لجوء الانتقالي للقضاء هو تأكيد على انتمائه لمعسكر الدولة والشرعية والنظام، وابتعاده الكامل عن نهج الميليشيات والفوضى والقمع الذي يمثله الحوثي.
*الصفة القانونية للمجلس الانتقالي: حق أصيل في حماية هيبة الدولة*
الشكوى التي قدمها المجلس الانتقالي الجنوبي ليست مجرد رد فعل على منشورات صحفية، بل هي ممارسة لحق قانوني أصيل ينبع من مكانته وصفته الرسمية ككيان سياسي معترف به وشريك فاعل في أعلى هرم السلطة في اليمن.
هذا الحق ليس ترفاً، بل هو ضرورة لحماية هيبة الدولة ومؤسساتها من الاستهداف والتشويه الممنهج.
المجلس الانتقالي الجنوبي ليس مجرد فصيل أو مكون عابر، بل هو كيان سياسي وطني يمثل قضية شعب الجنوب، وهو شريك رئيسي في مجلس القيادة الرئاسي الذي يمثل الشرعية اليمنية المعترف بها دولياً. كما أن له وزراء في الحكومة ويمارس صلاحيات واسعة في إدارة شؤون المحافظات الجنوبية. هذه الصفة القانونية والسياسية تمنحه الحماية التي يمنحها القانون لمؤسسات الدولة، وتجعل أي استهداف له، سواء كان مباشراً أو غير مباشر، استهدافاً لمؤسسة من مؤسسات الحكم القائمة.
عندما يتعرض كيان بهذه الصفة لحملات تشهير أو تحريض، فإن الضرر لا يقتصر على سمعة المجلس أو كوادره، بل يمتد ليطال السلم العام والاستقرار المجتمعي. فالتحريض ضد مؤسسة سياسية مشاركة في السلطة التنفيذية يمكن أن يترجم إلى فوضى على الأرض، ويهدد تماسك الجبهة الداخلية في مواجهة التحديات الكبرى، وعلى رأسها خطر الميليشيات الحوثية. لذلك، فإن الدفاع عن هيبة المجلس الانتقالي هو في جوهره دفاع عن هيبة الدولة واستقرارها.
إن القانون، وتحديداً قانون الصحافة والمطبوعات وقانون الجرائم والعقوبات، لم يوضع فقط لحماية الأفراد، بل وُضع أيضاً لحماية الكيانات الاعتبارية والمؤسسات العامة من الإساءة والتشهير والتحريض. وعندما يقرر المجلس استخدام هذه الأدوات القانونية، فهو لا يخترع شيئاً جديداً، بل يمارس حقاً مكفولاً لكل مؤسسة في أي دولة تحترم نفسها. إن رفض هذا الحق يعني تجريد مؤسسات الدولة من حمايتها القانونية وتركها عرضة للابتزاز والتشويه، وهو ما يؤدي حتماً إلى انهيار هيبتها وتقويض قدرتها على أداء مهامها.
لذلك، يجب النظر إلى هذه القضية من منظورها الصحيح: المجلس الانتقالي الجنوبي، بصفته كياناً مؤسسياً منضبطاً بالقانون، يمارس حقه في التقاضي مثل أي طرف آخر لحماية مكانته التي اكتسبها بنضال شعبه وتضحياته، وبموجب الشراكة السياسية القائمة. وهذا الحق لا يتعارض إطلاقاً مع حرية الصحافة، بل يرسم الحدود الضرورية التي تمنع تحول هذه الحرية إلى أداة للهدم والتحريض.
*الفريق القانوني: ذراع مؤسسية للدفاع عن المشروع الوطني*
في هذه القضية يبرز الدور المحوري والمهني الذي يلعبه الفريق القانوني لهيئة الشؤون القانونية بالأمانة العامة لهيئة رئاسة المجلس الانتقالي الجنوبي.
هذا الفريق ليس مجموعة من المحامين المتطوعين أو أفراداً يعملون بصفتهم الشخصية، بل هو ذراع قانوني رسمي ومؤسسي، يعمل بتفويض مباشر من قيادة المجلس، وهدفه الأسمى هو صون الحقوق القانونية للمجلس وهيئاته وكوادره.
إن وجود فريق قانوني متخصص ومنظم داخل هيكل المجلس الانتقالي هو دليل آخر على الطابع المؤسسي الذي يعمل به المجلس. فهذا الفريق لا يتحرك بناءً على أهواء شخصية أو ردود فعل انفعالية، بل يعمل في إطار استراتيجية قانونية واضحة، ووفقاً للوائح وإجراءات منظمة، وتحت إشراف مباشر من الأمانة العامة. مهمته لا تقتصر على رفع الدعاوى القضائية، بل تشمل تقديم الاستشارات القانونية، ومراجعة القرارات، وضمان توافق جميع إجراءات المجلس مع القوانين النافذة.
من المهم جداً تكذيب وفضح المحاولات الممنهجة التي تسعى لتغيير المركز القانوني لهذا الفريق، وتصوير أعضائه وكأنهم أطراف في خصومة شخصية مع الصحفي أو غيره. هذه المحاولات تهدف إلى تجريد الشكوى من طابعها المؤسسي والرسمي، وتحويلها إلى مجرد نزاع بين أفراد، وهو تضليل يهدف إلى إضعاف الموقف القانوني للمجلس. الحقيقة الواضحة هي أن الفريق القانوني لم يقدم الشكوى باسمه الشخصي، بل بصفته مفوضاً رسمياً عن المجلس الانتقالي الجنوبي. وبالتالي، فإن أي إساءة أو تشكيك في نزاهة هذا الفريق أو صلاحياته المفوض بها، هو في حقيقة الأمر تحريض مباشر ضد مؤسسة عامة وتشكيك في قراراتها الرسمية.
إن الإشادة بالدور الذي يبذله هذا الفريق القانوني واجبة. فهم يعملون في ظروف معقدة، ويواجهون تركة ثقيلة من الفوضى القانونية، ويسعون جاهدين لتأسيس ثقافة احترام القانون وحماية المؤسسات. إنهم خط الدفاع الأول عن المشروع الوطني الجنوبي في الساحة القانونية، ويتصدون لأي محاولات استهداف إعلامي أو تشهيري تهدف إلى النيل من مكانة المجلس واعتباره العام. إن تماسك الرؤية الاستراتيجية بين القيادة السياسية للمجلس وفريقه القانوني هو ما يضمن أن كل خطوة يتم اتخاذها هي خطوة مدروسة ومحكمة، تهدف إلى تحقيق المصلحة العامة وليس تصفية حسابات شخصية.
*بين النقد المشروع والتحريض المجرّم: حدود حرية التعبير*
تثير هذه القضية جدلاً محورياً حول التوازن الدقيق بين حرية التعبير كحق أساسي، وبين ضرورة حماية المجتمع ومؤسساته من مخاطر التحريض وخطاب الكراهية. من الضروري التأكيد بشكل قاطع أن احترام القانون لا يتعارض إطلاقاً مع حرية الصحافة، بل على العكس، هو الذي يحميها من الفوضى والانفلات اللفظي الذي قد يحولها من أداة تنوير ورقابة إلى وسيلة للتحريض والتشهير.
حرية التعبير ليست حقاً مطلقاً في أي نظام قانوني في العالم. إنها حرية مسؤولة، مقيدة بحدود واضحة تهدف إلى حماية حقوق الآخرين والنظام العام. عندما يتجاوز التعبير حدود النقد الموضوعي والبنّاء، ويدخل في دائرة الإساءة الشخصية، أو الازدراء المتعمد للمؤسسات، أو التحريض الصريح على العنف أو الكراهية، فإنه يتحول من ممارسة مشروعة إلى جريمة يعاقب عليها القانون.
المجلس الانتقالي الجنوبي وفريقه القانوني لم يرفعوا دعوى ضد النقد، فالساحة الإعلامية في عدن مليئة بالآراء النقدية لأداء المجلس، ولم يتم مقاضاة أصحابها. لكن الشكوى المقدمة تتحدث عن تجاوز "حدود النقد المباح إلى التحريض الصريح والإساءة المتعمدة والتشهير". وهنا يكمن جوهر المسألة.
إن الخلط المتعمد بين النقد المشروع والتحريض المجرّم هو محاولة لتوفير غطاء من "حرية الرأي" لممارسات يرفضها القانون والأخلاق المهنية.
الادعاءات التي تروج لها بعض الجهات بأن هذه الشكوى تمس الحريات هي ادعاءات باطلة وكاذبة جملةً وتفصيلاً. فالهدف ليس إسكات الأصوات الناقدة، بل هو وضع حد للعبث الحاصل في وسائل التواصل الاجتماعي، حيث يعتقد البعض أنه يمكنهم قذف الاتهامات جزافاً والتحريض على المؤسسات دون أي رادع قانوني.
ما يقوم به الفريق القانوني الجنوبي يهدف إلى تحقيق الصالح العام، من خلال التأكيد على أن الحرية تأتي مع مسؤولية، وأن كل شخص، بما في ذلك الصحفيون، مسؤول عن المحتوى الذي ينشره، وفقاً للمبادئ القانونية الراسخة التي تجعل صاحب الوسيلة الإعلامية مسؤولاً عن محتواها.
من هنا، تأتي أهمية التحذير من مغبة الخلط بين هذين المفهومين. فالنقد حق وواجب، وهو ضروري لتصويب الأخطاء وتطوير الأداء. أما التحريض والتشهير فهما جريمة تهدد السلم الاجتماعي وتضعف هيبة الدولة، وتعرض صاحبها للمساءلة القانونية. والقضاء هو الجهة الوحيدة المخولة بالفصل في كل حالة، وتحديد ما إذا كان المنشور يندرج تحت النقد المشروع أم التحريض المجرّم.
*رفض الإساءة والتحريض: حماية السلم العام وكرامة المؤسسات*
موقف المجلس الانتقالي الجنوبي الرافض لأي خطاب إعلامي مسيء أو مهين بحقه وبحق فريقه القانوني، ليس مجرد دفاع عن سمعة كيان سياسي، بل هو موقف مبدئي يهدف إلى حماية السلم العام وكرامة مؤسسات الدولة.
عندما يتم السماح بالتحريض المباشر أو غير المباشر على كيان سياسي قائم يمارس السلطة في إطار الشرعية الدولية المعترف بها، فإننا نفتح الباب على مصراعيه أمام الفوضى وزعزعة الاستقرار.
بصفته شريكاً في السلطة التنفيذية، يمثل المجلس الانتقالي الجنوبي جزءاً من هيبة الدولة، وأي إساءة متعمدة له أو لقياداته أو لفريقه القانوني المفوض، لا يمكن اعتبارها مجرد رأي، بل هي مساس بكرامة مؤسسات الدولة وممثليها.
هذا النوع من الخطاب لا يخدم أي نقاش عام بناء، بل يهدف فقط إلى بث الكراهية، وتأليب فئات المجتمع ضد بعضها البعض، وتقويض الثقة في المؤسسات الوطنية في وقت هي أحوج ما تكون فيه إلى الدعم والالتفاف الشعبي.
لذلك، فإن التحذير من أي إساءات بحق المجلس الانتقالي هو تحذير من تهديد السلم العام. ففي بيئة سياسية هشة ومجتمع يعاني من آثار الحرب، يمكن للكلمة التحريضية أن تكون شرارة تشعل فتنة لا تُحمد عقباها. إن المسؤولية الوطنية تقتضي من الجميع، وخاصة الإعلاميين والناشطين، التحلي بأعلى درجات المسؤولية، والابتعاد عن لغة التجريح والتحريض، والتركيز على النقد الموضوعي الذي يهدف إلى الإصلاح وليس الهدم.
كما يجب رفض أي محاولات للنيل من المركز القانوني للفريق القانوني للمجلس عبر التشكيك في نزاهته أو صلاحياته. هذا الفريق، كما أسلفنا، هو مؤسسة مهنية تعمل وفق تفويض رسمي. والتشكيك فيه هو تشكيك في قرارات قيادة المجلس نفسها، ومحاولة لعرقلة ممارسته لحقه القانوني في الدفاع عن نفسه. إن الفريق القانوني لا يمثل طرفاً خصماً في نزاع شخصي، بل هو أداة الدولة القانونية لإنفاذ القانون وحماية المصلحة العامة.
إن التزام المجلس الانتقالي وفريقه القانوني الكامل بسيادة القانون ونزاهة القضاء وعدالة النيابة العامة هو الضمانة الأساسية للجميع. فالمجلس لم ينصّب نفسه حكماً، بل وضع القضية بين يدي القضاء، وهو يثق بأنه سيقول كلمته الفصل، ويردع أي ممارسات تمس هيبة المؤسسات الوطنية الجنوبية أو تنال من سمعتها، مع الحفاظ في الوقت ذاته على حقوق الجميع، بما في ذلك حق الدفاع وحق التعبير المسؤول.
*تماسك الرؤية الاستراتيجية: خطوات مدروسة نحو دولة الجنوب*
إن قضية الدعوى القانونية، عند النظر إليها ضمن الصورة الأكبر، تكشف عن تماسك الرؤية الاستراتيجية للمجلس الانتقالي الجنوبي وقيادته السياسية وفريقه القانوني.
كل خطوة يتخذها المجلس، سواء على الصعيد السياسي أو العسكري أو القانوني، هي جزء من مسار مدروس ومحكم، يهدف إلى تحقيق الهدف الأسمى لشعب الجنوب المتمثل باستعادة وبناء دولته الفيدرالية المستقلة على أسس حديثة من العدل والقانون والمؤسسات.
يثبت المجلس الانتقالي الجنوبي يوماً بعد يوم أنه كيان متزن سياسياً ومهنياً في تعامله مع كافة القضايا. فهو يشارك بفعالية في هياكل السلطة الشرعية لمواجهة الانقلاب الحوثي، وفي الوقت نفسه، لا يتخلى عن قضيته الوطنية وهدفه الاستراتيجي. يمد يده للحوار مع جميع الأطراف، ولكنه لا يتهاون في الدفاع عن حقوق ومكتسبات شعب الجنوب. وهذا التوازن الدقيق بين المرونة السياسية والثبات على المبدأ هو سر نجاحه وقوته.
إن الخطوة القانونية الأخيرة ليست استثناءً من هذه القاعدة. إنها ليست ردة فعل متسرعة، بل هي ممارسة لحق قانوني أصيل، تم اتخاذها بعد دراسة وتفكير، كجزء من استراتيجية شاملة لبناء ثقافة الدولة والمؤسسات. إنها تؤكد أن المجلس لا يسعى فقط إلى السيطرة على الأرض، بل يسعى إلى بناء الإنسان والمؤسسة، وترسيخ قيم المواطنة واحترام القانون.
هذه الرؤية المتماسكة تبعث برسالة طمأنة للجميع. فهي تؤكد للجنوبيين أن قيادتهم تسير بخطى واثقة نحو تحقيق حلمهم بدولة آمنة ومستقرة ومزدهرة. وهي تؤكد للشركاء الإقليميين والدوليين أن المجلس الانتقالي هو شريك يمكن الاعتماد عليه، وأنه يمثل قوة استقرار لا قوة فوضى. وهي تؤكد حتى للخصوم السياسيين أن لغة الحوار والقانون هي اللغة التي يفضلها المجلس، وأن عصر الفوضى واستخدام القوة لحل الخلافات قد ولى.
التجاوب مع كافة الجهود والمهام التي يبذلها الفريق القانوني الجنوبي ودعمها جزء لا يتجزأ من دعم هذه الرؤية. فهذا الفريق هو الجهاز المختص بحماية كيانات ومؤسسات الجنوب من حملات التشويه والابتزاز الإلكتروني التي يحاول البعض ممارستها ضد الجنوب وقواته المسلحة والأمنية ومجلسه الانتقالي وقياداته. إن عملهم الدؤوب هو حجر أساس في بناء صرح الدولة الجنوبية القادمة، دولة يسود فيها القانون والعدل والنظام.
*دعوة للمسؤولية الإعلامية: نحو إعلام جنوبي بنّاء*
من منطلق الحرص على المصلحة الوطنية العليا للجنوب، لا بد من توجيه دعوة صادقة ومخلصة إلى كافة وسائل الإعلام الجنوبية، وخاصة تلك التابعة للمجلس الانتقالي الجنوبي، وإلى جميع الصحفيين والناشطين الجنوبيين، بضرورة التحلي بالمسؤولية الوطنية والمهنية، وعدم الانجرار خلف الحملات الإعلامية التي تحاول الإساءة لأي طرف أو تحويل قضية قانونية إلى مادة للاستقطاب والمناكفات.
إن المعركة الحقيقية التي يخوضها الجنوب اليوم هي معركة بناء ووعي، وليست معركة تصفية حسابات داخلية. إن المرحلة تتطلب توحيد الصفوف، وتركيز الجهود الإعلامية على فضح ممارسات العدو الحقيقي المتمثل في ميليشيا الحوثي، وتسليط الضوء على إنجازات المؤسسات الجنوبية، ومناقشة القضايا التي تهم المواطن بأسلوب بناء ومسؤول.
يجب على الإعلام الجنوبي أن يكون مرآة تعكس نضج المشروع الوطني الجنوبي. يجب أن يبتعد عن لغة الشتائم والتخوين، وأن يتبنى خطاباً جامعاً يرسخ قيم الحوار والتسامح واحترام القانون.
إن قوة المجلس الانتقالي وقضية الجنوب لا تكمن في إسكات الأصوات المعارضة، بل في القدرة على إدارة الاختلاف في الرأي بحكمة ومسؤولية، وفي إثبات أن دولة الجنوب القادمة ستكون دولة تتسع للجميع.
هذه الخطوة القانونية التي اتخذها المجلس الانتقالي يجب أن تكون درساً للجميع في أهمية الاحتكام إلى المؤسسات. وعلى الإعلام أن يدعم هذا التوجه، وأن يشجع ثقافة اللجوء إلى القضاء بدلاً من المنابر الإعلامية لتصفية الخلافات. إنها فرصة لتنقية المشهد الإعلامي من الشوائب، والارتقاء به ليكون شريكاً حقيقياً في معركة البناء والتنمية.
بسلوكه الحضاري ولجوءه للقضاء فإن المجلس الانتقالي الجنوبي، بقيادته الحكيمة وفريقه القانوني المنظم، قد وضع الكرة في ملعب القضاء، مؤكداً ثقته الكاملة في نزاهته. وعلى الجميع الآن احترام هذا المسار، وترك العدالة تأخذ مجراها، والتفرغ لما هو أهم: العمل يداً بيد من أجل تحقيق تطلعات شعب الجنوب في الحرية والكرامة واستعادة الدولة.