كتابات وآراء


الأربعاء - 24 ديسمبر 2025 - الساعة 09:45 م

كُتب بواسطة : حافظ الشجيفي - ارشيف الكاتب




هناك لحظات في تاريخ الشعوب، تقف فيها الأقدار على حد السيف، وتصبح الكلمة فيها مسؤولية لا تقل خطورة عن طلقة الرصاص، ذلك أن صناعة المصائر لا تحتمل المواربة، ولا تقبل أنصاف الحلول حين تكون الحقائق ناطقة فوق الأرض، صارخة في ضمير الزمن. ومن هنا، فإن القراءة الدقيقة لمسارات الأزمات الكبرى، والنزاعات التي تضرب بجذورها في أعماق الهوية والوجود، تفرض علينا وقفة تأملية واعية، تستلهم من دروس التاريخ ومنطق التجارب والاحداث ما يضيء لنا عتمة الراهن وتعرجاته المعقدة.
فالقاعدة الراسخة التي تحكم حركة المجتمعات، أفرادا وجماعات، تخبرنا بأن الشعوب لا تنقاد ولا تقبل أبدا بفكرة أو مشروع يفرض عليها عبر منطق القوة، مهما بلغ جبروتها أو طغى سلطانها، بل إن النفس البشرية في فطرتها تأبى الرضوخ وتنزع نحو الانعتاق كلما أحست بوطأة الإكراه مهما كان ضعفها. لأن القناعة الحقيقية، التي تستقر في الوجدان الجمعي، لا تتولد إلا عبر قوة المنطق، وبقدرة الحجة على النفاذ إلى العقل والقلب معا. واللافت في طبائع الصراع، أن قوة المنطق تفقد بريقها وقدرتها على الإقناع حينما تأتي مسكونة بظلال الترهيب أو مشفوعة بمنطق القوة، إذ يصبح التهديد هنا حجابا يمنع الرؤية، ويحول دون الوصول إلى تفاهمات مستدامة. فقوة المنطق في جوهرها تمتلك كفاية ذاتية، وهي في غنى عن الاستقواء بأدوات القمع، لأن الحق لا يحتاج إلى عكاز من حديد كي يقف مستقيما أمام منصة الحقيقة.
استهللت حديثي هذا بهذه القاعدة التي تشكل ناظما للعلاقات الإنسانية والسياسية على حد سواء، لأنني بصدد مقاربة لمشهد معقد في الجغرافيا اليمنية حيث تتبدى اليوم محاولات لصياغة تسويات إقليمية ودولية تسعى لمعالجة الأزمة المتفاقمة، بما فيها قضية الجنوب بخصوصيتها التاريخية والسياسية ومستجداتها الراهنة. ونجد لزاما علينا هنا أن نؤكد بصراحة لا تقبل اللبس، أن أي تسوية تنشد الاستقرار لا يجوز أن تبنى على إرضاء طرف على حساب تطلعات طرف آخر، أو تتجاوز إرادة شعب بذل الغالي والنفيس في سبيل قضيته. والوسيط الذي يغفل موازين العدالة، أو يحاول فرض واقع لا يتسق مع تضحيات الأرض، إنما يحول نفسه من ميسر للحوار إلى طرف ثالث يفتقر إلى الموضوعية، ويفخخ المستقبل بصراعات جديدة قد تكون أكثر ضراوة.
فالتنازلات في لغة السياسة الرصينة لا تفرض بالقوة، ولا يمكن انتزاعها بالإكراه من طرف يشعر بأن حقوقه مستباحة، بل إن المنطق السليم يقتضي أن تكون التنازلات متبادلة، ومتقابلة في الوزن والأثر، وهي في الغالب عبء يقع على عاتق من يفتقر إلى الحجة الصلبة والبرهان الساطع. وهنا نجد أنفسنا أمام مفارقة صارخة، إذ لم يعد لدى القوى في الشمال أي حجة أخلاقية أو قانونية أو سياسية تبرر ادعاء استمرار وحدة سقطت في اختبار الواقع، ولم يعد بإمكانها فرض هذا الشعار بالقوة بعد أن امتلك الجنوبيون من أسباب المنعة والاقتدار ما يكفي لإسقاط هذه الورقة من حساباتهم تماما. وبناء عليه، فإن تلك القوى لم تعد تمتلك قوة المنطق التي تسند ادعاءاتها، ولا تمتلك منطق القوة الذي يتيح لها فرض شروطها، في حين يجد الجنوبيون أنفسهم في موقع القوة المزدوجة، فهم يمتلكون منطق الحق المشروع في الاستقلال، ويمتلكون القوة التي تحمي هذا الحق وتفرضه واقعا ملموسا على الارض وأي مرونة قد يبديها الجنوبيون في مسار التفاوض، وأي تنازلات قد يقدمونها، هي في حقيقة الأمر رسائل موجهة لتعزيز دور الوسيط ودعم جهوده، وليست استجابة لضغوط الطرف الآخر الذي استنفد خياراته. فالتنازل حين يصدر عن المتمكن، يكون تعبيرا عن ذكاء سياسي، وعن نية صادقة في بناء مستقبل آمن، وهو مكسب مؤجل يعكس الثقة بالنفس والقدرة على المناورة دون التفريط في الثوابت. وعلى القوى الدولية والإقليمية أن تدرك بعمق أن شعب الجنوب، الذي قاوم آلة الحرب والسياسات الإقصائية لثلاثة عقود، لن يقدم تنازلات من باب الضعف، ولن تنال من عزيمته ورقة الفوضى أو التهديد بالسلاح.
فالضعفاء هم الذين يخشون التنازل لأنهم يفتقرون للشرعية، أما الأقوياء بالحق وبالقوة، فهم الذين يمتلكون شجاعة التفاوض دون خوف، تماما كما فعل الجنوبيون الذين استطاعوا عبر سنوات من الصمود والاحتجاج السلمي ثم الكفاح المسلح، أن ينتزعوا مكانتهم تحت الشمس دون ان يتنازلوا رغم انهم ظلوا في موضع ضعف عسكري قبل ان يصلوا الى هذا المستوى الذي وصلوا اليه اليوم لعقود. ولن يكون في مقدور أي قوة اليوم أن تعيد عقارب الساعة إلى الوراء، أو تجبر شعبا حيا على العودة إلى بيت طاعة لم يعد موجودا إلا في أوهام الحالمين بالسيطرة. فنحن نمتلك الحق، ونمتلك أدوات الدفاع عنه، ومن هذا المنطلق وحده،قد نفتح أبواب التسوية العادلة التي تعيد لكل ذي حق حقه، وتضع حدا لمعاناة طال أمدها، بعيدا عن لغة الإملاءات التي تجاوزها الزمن، وعن منطق الغلبة الذي تحطم على صخرة الإرادة الجنوبية الصلبة.