الإثنين - 22 ديسمبر 2025 - الساعة 09:40 م
المقال الذي كتبه المحلل السياسي السعودي عبد الرحمن الراشد يستند إلى مقولة نابليون: « الجغرافيا هي الحقيقة الوحيدة في السياسة» ويعاملها كقاعدة نهائية لا تُشكك. من منظور الواقعية النقدية، هذا اختزال خطير: الجغرافيا لا تقرر وحدها، بل تصبح حلبة صراع بين الفاعلين المحليين والإقليميين والدوليين، كلٌ يسعى لفرض إرادته على الواقع، مستخدماً القوة والشرعية والموارد والوعي الشعبي. السياسة، وفق هذا المنظور، ليست دراسة خرائط، بل فن إدارة القوة والتوازنات.
نابليون لم يكن فيلسوف دولة، بل قائد جيوش في عصر الإمبراطوريات. مقولته عن الجغرافيا تعكس قيوداً تكتيكية على الحركة العسكرية، لا قاعدة فلسفية حاكمة لمصائر الشعوب. أي افتراض بأن الجغرافيا وحدها تصنع المصائر يغفل حقيقة أن الكيانات السياسية تتحول وتتحايل على قيودها الطبيعية عندما تتوفر الإرادة والتنظيم والشرعية. المثال الحديث: دول نشأت من رحم إمبراطوريات وسقطت قوى كبرى أمام إرادة الشعوب والتنظيم الداخلي.
المقال يضع السعودية كثابت وحيد، ويصوّر أي مشروع جنوبي خارج رضاها على أنه مغامرة غير عقلانية. مدرسة الواقعية النقدية ترى في هذا التحليل اختزالاً خطيراً: القوة الجغرافية لا تلغي ضرورة تقييم القدرة على الإنتاج السياسي المحلي، ولا تُسقط مسؤولية الفاعلين في تشكيل توازنات جديدة، ولا تمنع ظهور كيان قادر على أن يكون شريكًا استراتيجياً أو تهديداً وفق خياراته.
القضية الجنوبية ليست تمرداً على الجغرافيا، بل إعادة إنتاج للذات الوطنية في ظل فشل دولة مفككة. الجنوب لم يسعَ لكسر المجال الإقليمي، بل طالب بالاعتراف بعقد سياسي انهار. المطالبة بالدولة ليست نزوة انفصالية، بل رد فعل منطقي على عجز الدولة المركزية عن توفير الأمن والمواطنة المتساوية.
حين يُصوّر المجلس الانتقالي كفاعل افتعل أزمة حضرموت، يتجاهل المقال أن الهوية الجنوبية لم تنتظر الإذن كي تتحرك. الفاعلون المحليون، وفق الواقعية النقدية، هم من يحددون مصائرهم ضمن ما تسمح به التوازنات الإقليمية، لا العكس. الانتقالي نظم هذه الإرادة الشعبية، ومنع انفجاراً أكبر قد يهدد استقرار كامل المنطقة.
تشبيه الانتقالي بالحوثي هو خلط معرفي. الحوثي حركة أيديولوجية عابرة للدولة، تعمل بالولاء السلالي والديني بينما المشروع الجنوبي حركة سياسية ذات أفق دولتي، تستند إلى تجربة دولة سابقة، وحدود وهوية سياسية واضحة. الاختلاف هنا ليس شكلياً، بل وجودي–سياسي. الجنوب يحمي نفسه ويعيد إنتاج الدولة، بينما الحوثي يلغي الدولة لصالح أيديولوجيا خارجية.
في ما يخص السعودية، الواقعية النقدية ترفض تصورها وصياً مطلقاً. هي جار استراتيجي، قوة إقليمية، يجب مراعاتها، لكنها ليست اللاعب الوحيد. المصالح المشتركة، وليس الإملاءات، هي التي تحدد استقرار المنطقة، وأي محاولة لتثبيت الجنوب تحت الوصاية الكاملة ستفشل لأن الإرادة المحلية لا تُلغى.
القول بأن الانتقالي يجب أن يعمل فقط داخل المجلس الرئاسي يخطئ افتراض أن الإطار قادر على حل تناقضات عمرها عقود. المجلس الرئاسي إدارة أزمة مؤقتة لا مشروع دولة كامل. الواقعية النقدية تدعو للنظر إلى الجنوب كفاعل قادر على التفاوض، التكيف، وإعادة إنتاج النظام السياسي حسب مصالحه، وليس مجرد لاعب تابع.
السؤال الجوهري الذي يغفله المقال:
هل اليمن يستطيع الاستمرار بصيغته الحالية، أم أن إعادة تعريف داخلي شامل هو السبيل الوحيد للاستقرار؟
الدول لا تسقط حين يطالب جزء منها بالانفصال، بل حين تعجز عن إنتاج معنى مشترك للعيش. والجنوب، اليوم، يعيد التفاوض مع الجغرافيا من موقع قوة وإرادة، لا من موقع تبعية.
ما غفل عنه الراشد أن السياسة ليست خرائط ثابتة، ولا مجرد قيود جغرافية. هي إدارة القوة، التوازنات، والفاعلين المحليين. الجغرافيا شرط، لكنها ليست القدر الوحيد، بل الحلبة التي يُختبر فيها وعي الشعوب وقدرتها على التمثيل والاستمرار.