الرئيس الزُبيدي: إجراءات حضرموت والمهرة لتأمين الجنوب والوجهة نحو صنعاء.. انفوجرافيك

الرئيس الزُبيدي يؤكد أهمية البيانات الإحصائية في بناء الدولة وصناعة القرار.. انفوجرافيك

الرئيس القائد عيدروس الزُبيدي يطّلع على جهود تطبيع الأوضاع وتثبيت دعائم الاستقرار بالمهرة وسقطرى



كتابات وآراء


الإثنين - 22 ديسمبر 2025 - الساعة 09:22 م

كُتب بواسطة : حافظ الشجيفي - ارشيف الكاتب




تأخذنا الأقدار أحيانا إلى لحظات تاريخية فارقة، تقف فيها الكلمات عاجزة أمام ثقل الوقائع، ويصبح فيها التحليل السياسي ضربا من الغوص في بحار متلاطمة من التناقضات التي لا تستقيم مع منطق الجغرافيا ولا حقائق التاريخ، ونحن إذ ننظر اليوم إلى المشهد المتفجر في ربوع جغرافيا الجمهورية العربية اليمنية، نجد أنفسنا أمام حالة تستعصي على الحسم العسكري التقليدي، وتتجاوز في تعقيداتها حدود الرصاص والمدافع، لتستقر في عمق التكوينات الاجتماعية والمذهبية التي صاغت وجدان تلك المنطقة عبر قرون طويلة، ومن هنا، فإن القراءة الهادئة والمتأنية لما يدور فوق هضاب صنعاء وفي فيافي مأرب، وتلال تعز تشير بوضوح لا لبس فيه إلى أننا بصدد صراع صفري، لن يخرج منه طرف منتصرا بالمعنى العسكري الكامل، ولن يستطيع فيه فريق أن يمحو وجود الفريق الآخر مهما امتلك من أدوات القوة أو حظي به من دعم خارجي.
فالمتأمل في مسارات الميدان خلال السنوات العجاف الماضية يدرك أن الميليشيات الحوثية لم تصمد لأنها تمتلك تفوقا عسكريا كاسحا، كما أن منظومة الشرعية لم ترواح مكانها بسبب ضعف أصيل في تكوينها فحسب، بل إن الجوهر الحقيقي يكمن في تلك البيئات الشعبية والحاضنات الاجتماعية المتباينة التي يستند إليها كل طرف، فنحن أمام انقسام مذهبي وسياسي واجتماعي أفقي وعمودي، جعل من استمرار الحرب خيارا انتحاريا لا يقود إلا إلى تدمير النسيج المجتمعي والحواضن البشرية للطرفين معا، وفي قلب هذا المشهد، يتجلى الجنوب كطرف مستقل تماما، استطاع بوضوح إرادته وصلابة تضحياته أن ينأى بنفسه عن هذا الأتون، ليصبح كيانا قائما بذاته، له قضيته المختلفة التي لا تقبل الذوبان في تفاصيل صراع السلطة الشمالي، وهو وضع جعل من الجنوب رقما صعبا في معادلة المنطقة، بل ربما المستفيد الأكبر من حالة الارتباك التي تعصف بخصومه.
وهنا تظهر الحقيقة التي يحاول الكثيرون القفز فوقها، وهي أن المشاكل في جغرافيا الجمهورية العربية اليمنية لن تحسمها فوهات البنادق ولا جنازير الدبابات، لأن القضايا المتجذرة في الهوية والمذهب لا تموت بالقتل، بل تغذيها الدماء، وعلى القوى المتصارعة هناك أن تدرك، ولو بعد حين، أن البحث عن صيغة وطنية للتعايش هو الممر الوحيد للخروج من هذا النفق المظلم، فالحوثي الذي لم يهزم عسكريا في معقله، يمكن إخضاعه لمنطق الدولة ومقتضيات الاستقرار عبر تفاهمات سياسية وحوارات جادة تراعي الواقع الجديد، وتوضع حدا لاستنزاف البشر والحجر، وتؤسس لمستقبل يحترم الخصوصيات بعيدا عن أوهام السيطرة المطلقة التي أثبتت الأيام عقمها وفشلها الذريع.
بيد أن المفارقة التي تثير الدهشة، وتدعو إلى التأمل في سيكولوجية النخب السياسية في الشمال، هي ذلك الاستنكار الغريب والرفض المستميت لاستقلال الجنوب واستعادته لدولته التي كانت يوما رقما صعبا في المعادلة الدولية ، فهؤلاء الذين يقفون اليوم فوق أرض متشظية، موزعة بين دولة لحزب الإصلاح، ودولة لهياكل الشرعية، ودولة للمليشيا الحوثية، ناهيك عن الإقطاعيات القبلية المتناثرة، يطالبون الجنوبيين بالتمسك بوحدة قتلوها بأيديهم وحولوها إلى احتلال مكتمل الأركان، ومن العجب أن يطالب ومن يعجز عن لم شتات بيته المنقسم على نفسه، جيرانه بالبقاء في قفص الوحدة الذي تهدمت جدرانه، وهم يرون بأم أعينهم كيف تحول الشمال إلى كيانات متصارعة لا يجمعها سوى محاولة تعطيل المشروع الجنوبي الذي بات يمتلك سيادته الفعلية على الأرض.
فمنطق التاريخ لا يجامل أحدا، والواقعية السياسية تقتضي من نخب الشمال أن ينظروا في المرآة قليلا قبل توجيه لومهم للجنوب، فالجنوبيون الذين قدموا قوافل الشهداء، وعاشوا عقودا من الصبر والحرمان والتهميش، لم يقرروا العودة إلى دولتهم المستقلة من فراغ، بل هو نتاج طبيعي لانهيار مشروع لم يجدوا فيه سوى الإقصاء والنهب، ومن غير اللائق، بل ومن المجافي للحقيقة، أن يستمر هذا الضجيج الإعلامي الذي يتباكى على وحدة هي في الواقع غير موجودة إلا في مخيلة من يريدون استمرار الاستحواذ، بينما هم في واقع الأمر يعيشون حالة تشرذم غير مسبوقة، تجعل من حديثهم عن الوحدة نوعا من الهروب إلى الأمام، وتغطية على عجزهم عن إيجاد حل لمعضلاتهم الداخلية التي باتت تهدد ما تبقى من وشائج الأخوة والجوار.
فقد مضى زمن الوصاية، وانتهت أسطورة المركزية التي تدار من صنعاء، والجنوب اليوم، بقواته المسلحة وإرادته الشعبية، شق طريقه نحو فجر جديد لا عودة فيه إلى الوراء، واستمرار الحرب في الشمال لن يكون إلا وقودا لمزيد من ترسيخ الاستقلال الجنوبي الواقعي، فالتاريخ يعلمنا أن الكيانات التي لا تقوم على الرضا والشراكة الحقيقية مصيرها التفكك، وما نراه اليوم في الشمال ليس إلا الفصل الأخير من حكاية دولة لم تستطع استيعاب التنوع، فارتدت إلى مكوناتها الأولية، بينما يبقى الجنوب الصامد هو الطرف الأقوى سياسيا وأخلاقيا، لأنه يحمل قضية عادلة، ويسير بخطى واثقة نحو استعادة سيادته الكاملة، تاركا خلفه صراعات لا تنتهي في جغرافيا يبدو أن القدر أراد لها أن تعيد اكتشاف نفسها من خلال الوجع والدم.