السبت - 20 ديسمبر 2025 - الساعة 05:44 م
حين نقترب من قراءة المشهد الملتهب في جغرافيا الجنوب العربي، وبالتحديد في تلك المربعات الاستراتيجية من حضرموت والمهرة، فإننا لا نجد انفسنا امام مجرد تحركات عسكرية او تبدلات في خارطة السيطرة الميدانية، بل اننا في واقع الامر نواجه استحقاقا تاريخيا طال انتظاره، وفرضا وطنيا لواقع جديد يعيد صياغة التوازنات في شبه الجزيرة العربية برمتها، ومن هنا يطرح التساؤل الجوهري حول طبيعة الموقف الدولي الذي تجسد في تصريحات الامين العام للامم المتحدة الاخيرة، التي بدت في ظاهرها متمسكة بلغة الدبلوماسية التقليدية لكنها في جوهرها تفتقر الى ملامسة الحقائق العميقة التي تجري تحت السطح، اذ جاء حديث الامين العام مشددا على ضرورة الحوار ونبذ الاجراءات الاحادية الجانب، وكأن التاريخ يمكن ان يتوقف عند حدود البيانات الصحفية او ينتظر اذنا من المكاتب المغلقة في نيويورك لكي يصحح مسارات الظلم والاقصاء، والحقيقة التي لا يمكن القفز فوقها هي ان القوات الجنوبية حين بسطت سيطرتها على كامل ترابها في حضرموت والمهرة، لم تكن تمارس عملا عدائيا بل كانت تستعيد هوية وتؤمن حدودا وتطرد قوى رأت فيها جماهير الجنوب دائما قوات احتلال عطلت مسيرة الحياة وعاثت في الارض نهبا وتهميشا.
فالمنطق الذي يتحدث به المجتمع الدولي اليوم يضعنا امام مفارقة عجيبة، فهو يدعو المجلس الانتقالي الجنوبي الى الحوار مع الاطراف اليمنية لحل التباينات، وهذا في حد ذاته طرح يبدو عقلانيا من حيث الشكل، لكنه حين يوضع على مشرحة التحليل السياسي الواقعي يتبدى لنا فراغ هائل في الطرف الاخر من الطاولة، اذ يحق لنا ان نسأل وبكل صراحة ووضوح، مع من يتحاور الجنوبيون اليوم.. ففي الساحة اليمنية الشمالية نجد انفسنا امام خليط من القوى المتناحرة والاطراف المتعددة التي تدعي كل منها امتلاك الحق الحصري في الشرعية والتمثيل، بينما هي في واقع الحال تعيش حالة من التشرذم والشتات الذي يمنعها من صياغة رؤية واحدة او حتى الاتفاق على قيادة موحدة يمكن الجلوس اليها، فهل يتحاور المجلس الانتقالي مع اشباح سلطة فقدت تأثيرها على الارض، ام مع قوى ايديولوجية متصارعة لا يجمعها سوى العداء لتطلعات الشعب الجنوبي، اذ ان غياب الشريك الشمالي الموحد والمؤهل لاتخاذ القرار يجعل من دعوات الامم المتحدة للحوار مجرد كلمات طائرة في الهواء، لا تجد ارضا صلبة تهبط عليها، بل انها تصبح نوعا من العبث السياسي الذي يراد منه اطالة امد الازمة وابقاء الجنوب رهينة لصراعات القوى في صنعاء ومحيطها.
وعلى الضفة الاخرى، نجد ان المجلس الانتقالي الجنوبي لم يأتي من فراغ ولم يفرض نفسه بقوة السلاح وحدها، بل هو نتاج تفويض شعبي عارم وحراك وطني صلب، وقد استطاع خلال السنوات الماضية ان يقدم نموذجا سياسيا ناضجا من خلال خوض حوارات واسعة وشاملة مع كافة المكونات والقوى الجنوبية دون استثناء، تكللت باللقاء التشاوري الكبير وبميلاد الميثاق الوطني الجنوبي، الذي لم يكن مجرد ورقة سياسية بل كان عقدا اجتماعيا جديدا حدد ملامح دولة الجنوب الفيدرالية القادمة، وبناء على ذلك فان المجلس الانتقالي اليوم هو الطرف الشرعي والثوري والوطني الذي يمتلك الحق في التحدث باسم الجنوب، وهو الطرف الذي استطاع توحيد الجبهة الداخلية وصياغة مشروع وطني واضح المعالم، بينما يغط الطرف الاخر في فوضى التمثيل، ومن هنا فان المسؤولية التاريخية تحتم على الامين العام للامم المتحدة وعلى القوى الدولية الفاعلة ان تدرك ان الخلل ليس في الجانب الجنوبي الذي رتب بيته واستعد للسلم كما استعد للدفاع عن حقه، بل ان العجز يكمن في البنية السياسية الشمالية التي فشلت في انتاج شريك حقيقي للحوار.
والقول بان الاجراءات الجنوبية الاحادية غير مقبولة دوليا هو قول يتجاهل ان ارادة الشعوب هي المصدر الحقيقي للشرعية، وان ما قام به المجلس الانتقالي في حضرموت والمهرة هو استجابة لمطالب شعبية لا تقبل التأجيل، ولذا فان المطلوب من الامم المتحدة اولا وقبل كل شيء هو دعوة والزام الاطراف اليمنية الشمالية المتصارعة للجلوس مع بعضها البعض، لكي يتفقوا على شكل دولتهم وكيفية تقاسم السلطة والنفوذ بينهم، ويتفقوا على كلمة سواء تجمعهم ، فاذا ما استطاعوا فعل ذلك واصبح لهم رأس واحد يتحدث باسمهم، حينها فقط يمكن الحديث عن حوار جاد مع الجنوب تحت رعاية دولية، اما ان يطلب من الجنوبيين الانتظار الى مالا نهاية حتى تنتهي صراعات الشمال، او ان يتحمل الجنوب تبعات الفشل السياسي والعسكري في صنعاء، فهذا منطق يفتقر الى العدالة ويجافي العقل، والواقع يفرض نفسه اليوم بكل قوة، فاما ان يحدد المجتمع الدولي موقفا واضحا وشجاعا يعترف باستقلال الجنوب وبحقه في تقرير مصيره بناء على المعطيات الجديدة، واما ان يظل يدور في حلقة مفرغة من المفاوضات التي لا تؤدي الا الى مزيد من التوتر، وعلى الاشقاء في الشمال ان يدركوا ان زمن التبعية قد ولى، وان عليهم الحوار فيما بينهم اولا للوصول الى رؤية موحدة تمكننا من الجلوس معهم لترتيب فك الارتباط بسلام، وبغير ذلك فان اعتراف العالم بدولة الجنوب المستقلة ليس مجرد خيار بل هو الضرورة القصوى لتأمين الاستقرار في هذا الممر الدولي الحيوي وحماية المنطقة من تداعيات الانهيار الشامل.