الأحد - 14 ديسمبر 2025 - الساعة 09:05 م
لا تزال قطاعات واسعة من النخب السياسية الشمالية تتعامل مع مفهوم “المركز القانوني للدولة اليمنية” باعتباره حقيقة مكتملة، قائمة على قرار سيادي موحّد وإرادة سياسية متجانسة، في حين أن هذا الفهم يتناقض جذرياً مع الواقع الذي أفرزته الحرب. فالمركز القانوني للدولة لم ينشأ نتيجة بناء دستوري متماسك أو سلطة وطنية جامعة، بل جاء بوصفه نتاجاً مباشراً لتوازنات فرضتها الحرب، وتوافقات ظرفية، ومحاصصات سياسية هدفت إلى إدارة الانقسام أكثر مما هدفت إلى حسمه. الرئاسة والحكومة القائمتان اليوم لم تتشكلا كجسمين يعكسان وحدة القرار، بل كتركيبتين تسويتين ضمّتا أطرافاً متباينة في الرؤية والأهداف والقدرة، الأمر الذي يجعل الحديث عن قرار يمني واحد حديثاً نظرياً لا يسنده الواقع.
لقد أعادت الحرب تعريف مفهوم الدولة ومركزها القانوني بصورة عملية لا نظرية. فالواقع الذي تشكّل على الأرض أفرز معادلة غير مكتوبة، لكنها تحكم السلوك السياسي والعسكري لجميع الأطراف. هذه المعادلة قامت على توزيع الوظائف لا على وحدة المشروع؛ جنوب يتولى حماية أرضه وتأمين جغرافيته ومنع سقوطها، وشمال منخرط في إطار الشرعية أُنيطت به مهمة تحرير مناطقه من قبضة عصابة صنعاء. لم تكن المناصفة التي قامت عليها الشرعية هدفاً سياسياً بحد ذاتها، بل كانت أداة لتنظيم هذا التوزيع الوظيفي، ومن هنا فإن المركز القانوني للدولة تشكّل بوصفه انعكاساً لهذه الوظائف لا تعبيراً عن دولة مركزية متماسكة.
وعليه، فإن الجدل الدائر حول “نسف” المركز القانوني للدولة يتجاهل السؤال الجوهري المتعلق بمن أخلّ فعلياً بالأسس التي قام عليها هذا المركز. فالطرف الجنوبي لم يخرج عن الدور الذي أُنتجت الشرعية من أجله، بل التزم بحماية الأرض الجنوبية وتأمينها في مواجهة مشاريع الفوضى والاختراق. في المقابل، فإن القوى الشمالية التي دخلت الشرعية تحت عنوان تحرير الشمال لم تتمكن، حتى اليوم، من تحقيق هذا الهدف أو الاقتراب منه، وهو ما جعل فكرة المركز القانوني للدولة فارغة من مضمونها العملي، لا بفعل تحركات الجنوب، بل بفعل عجز الشمال عن أداء وظيفته السياسية والعسكرية.
المجتمعان الإقليمي والدولي يقرآن هذا الواقع بقدر كبير من البراغماتية، ولا يتعاملان مع القرار اليمني بوصفه كتلة سياسية واحدة متجانسة، بل كمنظومة توافقية متعددة الأطراف، تحكمها تفاهمات مرنة أكثر مما تحكمها نصوص صارمة. ومن هذا المنطلق، فإن أي تحرك يقوم به طرف ما، طالما ظل ضمن الإطار العام للأهداف التي قامت عليها تلك التوافقات، لا يُعد خرقاً للشراكة ولا مبرراً للإدانة. تحرك المجلس الانتقالي الجنوبي لحماية الجغرافيا الجنوبية لا يختلف من حيث المبدأ عن حق القوى الشمالية في السعي لتحرير أراضيها، فكلا المسارين جزء من المنطق الذي تأسست عليه الشرعية نفسها.
إن الجنوب، في ممارسته السياسية والعسكرية، لا ينطلق من نزعة تصادمية مع الشمال، ولا من رغبة في تقويض الشراكات القائمة، بل من إدراك بسيط مفاده أن أي حديث عن نصر أو تحرير شامل يفقد معناه ما لم تُحمَ الأرض وتُؤمَّن الجغرافيا أولاً. فالحماية ليست نقيض التحرير، بل شرطه المسبق، والانتصار لا يمكن أن يُبنى على أرض رخوة أو واقع أمني هش. ومن هنا، فإن تحركات المجلس الانتقالي الجنوبي تمثل قراءة واقعية لمسار الحرب، لا خروجاً عنه.
إن مستقبل العلاقة بين الجنوب والشمال لن يُحسم عبر الشعارات أو عبر التمسك بتصورات قانونية مجردة، بل عبر الاعتراف الصريح بالواقع القائم، وبأن الشراكة الحالية هي شراكة وظائف فرضتها الحرب، وليست وحدة سياسية مكتملة. ما يحتاجه اليمن اليوم ليس إعادة إنتاج الوهم، بل إعادة تعريف العلاقة على أساس وضوح المسؤوليات، بحيث يتحمل كل طرف تبعات فشله أو نجاحه، دون تحميل الطرف الآخر كلفة العجز أو الإخفاق. وفي غياب هذا الوضوح، سيظل المركز القانوني للدولة مفهوماً عائماً، يتغير بتغير موازين القوة والوقائع على الأرض.
في النهاية، فإن المركز القانوني للدولة اليمنية، كما هو قائم اليوم، ليس نصاً مقدساً ولا بنية ثابتة، بل نتاج مسار صراعي مفتوح، صنعته الحرب وستعيد صياغته نتائجها. والحماية في الجنوب والتحرير في الشمال مساران متوازيان لا متعارضان، وعلى ضوء مآلاتهما سيتحدد شكل العلاقة القادمة بين الطرفين، سواء أفضت إلى شراكة جديدة أكثر وضوحاً، أو إلى صيغة مختلفة تفرضها حقائق ما بعد الحرب.