الجمعة - 12 ديسمبر 2025 - الساعة 10:25 م
لعلنا لا نبالغ ولا نتعدى حدود الحقيقة إذا قلنا إن ما يشهده الجنوب العربي اليوم، وتحديداً عاصمته التاريخية والسياسية عدن، ليس مجرد حدث طارئ في شريط الأنباء اليومي، بل هو لحظة فارقة يعيد فيها التاريخ تصحيح مساره، وتفرض فيها الجغرافيا السياسية أحكامها القاطعة التي لا تقبل الاستئناف. فقد وصل اليوم إلى عدن وفد عسكري رفيع المستوى، يمثل الثقل الاستراتيجي للتحالف العربي، وتحديداً من المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة، بينما تعيش المدينة ومعها كل مدن وارياف الجنوب حالة من الغليان الثوري المنظم، حيث يكمل شعب الجنوب يومه السادس معتصماً في الساحات العامة، في مشهد مهيب يؤكد – لمن كان لا يزال في عينيه رمد – أن إرادة الشعوب هي الرقم الصعب الذي لا يمكن شطبه من معادلات السياسة.
وفي تقديري، أن وصول هذا الوفد في هذا التوقيت بالذات، وبينما ترتفع الهتافات في كل ارجاء الجنوب مطالبة بالاستقلال واستعادة الدولة، يحمل دلالات أعمق بكثير من مجرد زيارة تفقدية بروتوكولية. واذ يرحب الشعب الجنوبي، بوعيه السياسي المتراكم عبر عقود من الألم، بهذا الوفد ترحيب الشريك بالشريك، ويعبر عن امتنان صادق لهذا التفاعل الأخوي من الأشقاء مع إرادته الحرة، بيد أن هذا الترحيب يحمل في طياته رسالة سياسية واضحة لا تقبل التأويل؛ تتمثل في دعوة الوفد، ومن خلفه صناع القرار في التحالف، إلى إحقاق الحق، والاعتراف بالواقع الذي تشكل عبر ثلاثين عاماً من النضال المرير والتضحيات الجسام.
ونكن صرحاء، ونسمي الأشياء بمسمياتها الحقيقية، بعيداً عن الدبلوماسية الرمادية. فانتم أمام شعب عانى معاناة لا توصف طوال ثلاثة عقود، واجه خلالها نهجا احتلاليا مارسته قوى صنعاء وحكام اليمن المتعاقبون. وأستطيع القول، استنادا إلى قراءة وقائع تلك المرحلة السوداء، أن تلك القوى لم تحاول يوما تغيير عقليتها، ولا تصحيح معاملتها العنجهية للمواطن الجنوبي ولم يسعوا لحظة واحدة لتصويب موقفهم الاستعلائي ضد هذا الشعب، ولم يشعروا يوما بوخز الضمير أو بالذنب، ولم يعرفوا للرحمة طريقا، بل على العكس تماما، فقد ازدادوا عدوانا وعنجهية وغطرسة، وقرروا بدم بارد، وعن سابق إصرار وترصد، أن الشعب الجنوبي لا يستحق الحياة إلا محروما معذبا ورازحا تحت وطأة الغزو وآلة القمع والنهب المنظم لثرواته ومقدراته.
وأستحضر هنا مشهد المقاومة، فبينما ظل الشعب الجنوبي يقاوم ويضحي ويكافح بشرف لتحرير نفسه من هذا الأخطبوط المتوغل في مفاصل حياته طوال هذه العقود، ويواجه بصبر أيوب قوة غاشمة لا ترحم، كان النظام في صنعاء يزداد قسوة وشراسة. ثم حدث التحول الدراماتيكي في المشهد اليمني، وأتى الحوثي من بعد علي عبدالله صالح، ولم يتأخر لحظة عن استكمال مشروع احتلال الجنوب، سواء كان ذلك بدلا عن صالح أو بالشراكة معه، فالهدف كان واحداً، والضحية كانت واحدة.
ولكن، وهنا تكمن المفارقة الكبرى التي يجب أن يتوقف عندها المؤرخون طويلا، لم يستسلم الشعب الجنوبي، ولم يرضخ للأمر الواقع، بل حمل السلاح الشخصي البسيط، الذي كان يتناوب عليه المقاومون لندرة الإمكانيات في اللحظات الأولى، ووقفوا وقفة رجل واحد حتى حرروا الجنوب، كتفا بكتف مع أشقائنا من الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية. حيث كان الجنوبيون منذ تلك اللحظة التاريخية شركاء صادقين في مقاومة المشروع الحوثي، ومخلصين بلا حدود مع دول التحالف العربي في مواجهة هذه المليشيا.
وفي المقابل، وإذا ما نظرنا إلى الطرف الآخر من المعادلة بإنصاف وتجرد، نجد أن القوى اليمنية التي تدعي مناهضتها لمليشيات الحوثي، استغلت الحرب وشراكتها مع دول التحالف لتحقيق مآرب شخصية ضيقة، ومارست أبشع أنواع الابتزاز العسكري والسياسي. والحقيقة التي باتت واضحة للعيان، أن هذه القوى لم تكن جادة يوما في مواجهة الحوثي، بل كانت عيونها ومخططاتها تسعى لاحتلال الجنوب مرة أخرى، وتحويله إلى "وطن بديل" لها، تعويضا عن فشلها في الشمال، وعن معاركها التي لم تخضها أصلا.
واليوم، تغيرت الرؤية، وانقشع الضباب عن العواصم. فدول التحالف العربي تعلم بالحقيقة كاملة، وتدرك الآن أن للجنوب قضية عادلة يجب أن تحسم، وهي قضية عربية في صميمها وليست مجرد قضية وطنية داخلية، وكفى عبثا بالمسلمات. فقد أصبحت الوحدة مع الشمال مستحيلة، ليس فقط بسبب الدماء التي سالت، ولكن بسبب اختلاف المشاريع والرؤى واستحالة التعايش. ولذلك، وبحكم المنطق الاستراتيجي ومقتضيات الأمن القومي العربي، فإن دول التحالف يجي ان تقف إلى جوار شعبنا، لإدراكها العميق بأن قضية الجنوب لن تحل بأي حل آخر غير الاستقلال، وأن القوى الشمالية أثبتت بالتجربة القاطعة أنها ليست قوى مؤهلة للوحدة، ولا تصلح لحمل مشاريع وطنية وعربية بهذا الحجم، ومن الظلم الفادح أن يبقى الجنوب ومستقبله مرتبطا بهذه القوى بأي شكل من أشكال الوحدة التي ماتت وشبعت موتا.
وفي الاخير فانني اؤكد، إن الرسالة التي يكتبها ابناء الشعب الجنوبي اليوم في الساحات لا تحتاج إلى ترجمة. فهم لن يبرحوا أماكنهم، ولن يغادروا خنادق نضالهم السلمي إلا بانتزاع الاستقلال الناجز. وأظن، وليس كل الظن إثم، أن أشقاءنا في التحالف باتوا يتفهمون تماما مبررات الشعب الجنوبي، ويقدرون دوافعه، ويعلمون أن استقرار هذه المنطقة الحيوية من العالم يبدأ بإنصاف الجنوب، وعودة الحق لأهله، وإن غدا لناظره قريب.