كتابات وآراء


السبت - 12 يوليو 2025 - الساعة 03:45 م

كُتب بواسطة : حافظ الشجيفي - ارشيف الكاتب


تتوارى خلف ضباب السياسات الدولية طبقات معقدة من الصمت والمُعلن، ومن المبادئ السامية والمصالح الدنيئة. وفي هذا المشهد المتشابك، تقف القضية الجنوبية في اليمن كنموذج صارخ لمفارقة دولية تستدعي التوقف والتأمل العميق. فهي ليست قضية وليدة اليوم، ولا تحتاج إلى تعريف أو شرح، حيث تجاوزت مراحل التوضيح الدبلوماسي منذ أمد بعيد. فالمجتمع الدولي، بكل مؤسساته وهيئاته، والإقليمي بجميع فاعليه، يمتلك من الإحاطة والتفاصيل والحيثيات ما يفوق إلمام أبناء الجنوب أنفسهم بقضيتهم فقد رصدوا كل منعطفاتها، وتتبعوا مسارها بدقة متناهية منذ بداياتها، فما الذي يفسر هذا الصمت المريب، وهذا التجاهل المتعمد لقضية عادلة بكل المعايير ولا لبس فيها

المؤكد إن هذا الصمت ليس جهلاً، بل هو اختيار. وفعل إرادي، تتكشف خلفه أهداف ومصالح استراتيجية تتعارض بشكل فاضح مع صلب القانون الدولي الذي يُفترض أن يكون مرجعاً، وتتناقض مع تطلعات الشعوب وحقها الأصيل في تقرير المصير. وهنا يكمن جوهر التساؤل الجنوبي الذي يتردد صداه في كل بيت ومؤسسة: ما هو موقفكم الحقيقي أيها المجتمع الدولي من القضية الجنوبية ولماذا هذا الإهمال المتعمد لقضية تعرفون تماما عدالتها وشرعيتها أكثر من أصحابها

ان الدور المنوط بالمجلس الانتقالي الجنوبي، الممثل الشرعي لتطلعات الشعب الجنوبي، لا يتعلق بشرح القضية أو إقناع المجتمع الدولي بعدالتها. فهذا دور قد تجاوزته الأحداث والوقائع بكل فعلي فمهمته اامجلس الانتقالي الجنوبي الاساسية تتمثل في مطالبة هذا المجتمع الدولي بتوضيح موقفه الصريح والشفاف، والكشف عن الأسباب الحقيقية وراء هذا التجاهل الممنهج. فعدالة القضية الجنوبية لم تكن يوماً محل شك، بل ازدادت قوة وشرعية مع كل حدث جلل. ولعل أبرز هذه الأحداث، بل الحدث المفصلي، هو انقلاب مليشيات الحوثي على السلطة الشرعية في عام 2015 واحتلالها للجنوب للمرة الثانية على نحو مثل انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة،الامر الذي كان يفترض أن يدفع بالمجتمع الدولي إلى الاهتمام بالقضية الجنوبية والتفاعل معها، وان يولبها كل اهتمامه وجهوده، لا أن يتجاهلها ويغض الطرف عنها.

إن من يزعم أن تحقيق تطلعات الجنوبيين في استعادة دولتهم المستقلة يتعارض مع جهود مكافحة الإرهاب، أو حماية الممرات الملاحية الدولية الحيوية، أو الأمن الدولي والمصالح العالمية، إنما يتجاهل حقائق راسخة. بل على العكس تماماً، فإن استعادة الدولة الجنوبية يتماهى تماماً مع هذه الأهداف، ويأتي في سياقها الطبيعي. فدولة جنوبية مستقرة ذات سيادة هي شريك أساسي في مكافحة الإرهاب العابر للحدود، وحماية الملاحة الدولية في مضيق باب المندب وخليج عدن، ورافعة للاستقرار الإقليمي والدولي. والأكثر من ذلك، فإن استقلال الجنوب يتوائم بشكل كامل، بل هو شرط أساسي، لجهود التخلص من خطر مليشيات الحوثي وهزيمتها، التي باتت تشكل تهديداً وجودياً للمنطقة والعالم. فكيف يتجاهل المجتمع الدولي هذه الحقائق البديهية؟

إن التساؤلات التي تعصف بأذهان أبناء الجنوب اليوم هي تساؤلات مشروعة ومنطقية: لماذا يتعمد المجتمع الدولي، وعلى نحو لافت وغريب، تجاهل القضية الجنوبية رغم أهميتها الاستراتيجية، إن لم يكن لديه أهداف ومصالح أخرى خفية؟ ولماذا يترك الشعب الجنوبي عرضة للحروب العسكرية المدمرة، والحروب الخدمية والاقتصادية التي تشنها قوى الاحتلال اليمني عليه، دون أن يحرك ساكناً حيالها ولماذا يتجاهل وجود المجلس الانتقالي الجنوبي، وهو يعلم يقيناً أنه يمثل الإرادة الشعبية الجنوبية، ويتبنى قضيتها، ويسعى لتحقيق تطلعاتها المشروعة

لقد استوفى الجنوب، بشعبه وتاريخه وجغرافيته، جميع الشروط الذاتية والموضوعية التي تؤهل أي شعب أو دولة في العالم للاستقلال. فالشروط القانونية متوفرة، والتاريخ يشهد على كيان دولة سابقة معترف بها دولياً. والشروط العسكرية والدبلوماسية والسياسية والاقتصادية قد تحققت ايضا، حيث يمتلك الجنوب جيشاً وطنياً مؤهلاً، وتمثيلاً دبلوماسياً فاعلاً، وإرادة سياسية موحدة، ومقومات اقتصادية واعدة. ومع كل هذا، يختار المجتمع الدولي تجاهل هذه القضية المحورية، ويهتم بقضية الحوثي التي لا تزيد عن كونها مجرد قضية ثانوية، وقضية سلطوية مرتبطة بالشأن الداخلي لدولة الاحتلال اليمني. هذا التناقض الصارخ هو ما يثير الريبة ويدعو إلى التساؤل عن الأولويات الحقيقية التي تحكم القرارات الدولية.

إن هذه الأسئلة ليست مجرد تساؤلات عابرة، بل هي صدى لإرادة شعب، وحجج منطقية تنتظر إجابات واضحة وصريحة. فصمت المجتمع الدولي لم يعد مقبولاً، وتجاهله لم يعد مفهوماً، والمماطلة في حل قضية الجنوب ستزيد من تعقيدات المشهد الإقليمي والدولي، ولن تخدم سوى أجندات الفوضى والتطرف. وعلى المجتمع الدولي أن يدرك أن عدالة القضية الجنوبية هي حقيقة لا يمكن طمسها، وأن تطلعات الشعب الجنوبي في استعادة دولته هي حق لا يمكن مصادرته. وإن لم تأتِ الإجابات من القناعة بالمبادئ، فلتأتِي من إدراك المصالح الحقيقية التي تقتضي استقراراً جنوبياً مستقلاً