الخميس - 29 مايو 2025 - الساعة 02:18 م
يُعدُّ المحامي علي هيثم الغريب من أبرز الذين تناولوا موضوع الهوية الجنوبية ومحاولات اليمننة التي تعرض لها، وذلك في مقالة بحثية مهمة نشرها أول مرة في صحيفة (عدن الغد)، في مطلع سنة 2014، ثم في مجلة (فنار عدن الثقافية)، الصادرة عن اتحاد أدباء وكتاب الجنوب، وذلك بعنوان (الجنوب العربي مرجعية الأرض والهوية والتاريخ).
في مستهل بحثه يعرّف علي هيثم الغريب الهوية على النحو الآتي: "الهوية امتداد للتاريخ والحضارة، وهي قيم وخصائص تمر في تفاعل ونمو وازدهار في إطار الجغرافيا الواحدة. والهوية تُعرَّف أيضا باعتبارها شعوراً جمعيًّا لأمةٍ أو لشعبٍ ما، يرتبط ببعضهِ مصيراً ووجوداً، حيث تشكل الهوية مجموع السمات الروحية والفكرية والعاطفية الخاصة التي تميز مجتمعاً بعينه، وطرائق الحياة ونظم القيم والتقاليد والمعتقدات وطرائق الإنتاج الاقتصادي والثقافي".
وفيما يتعل بخصوصية هوية الجنوب العربي كتب المحامي علي هيثم الغريب "كان الجنوب العربي قبل أن تحتله القوات العسكرية البريطانية في بداية عام 1839 مقسماً من الناحية الإدارية بين سلطنات ومشيخات؛ شأنه شأن الدول العربية كافة. حيث كانت تلك السلطنات والمشيخات تعيش داخل جغرافيا واحدة إدارةً وحدوداً وتاريخاً، ومستقلة عن محيطها العربي عموماً واليمني خصوصاً، شأنها في ذلك شأن محيطها العربي (عمان والسعودية واليمن والإمارات والكويت وقطر والبحرين)."
ويؤكد الغريب "أن هوية الجنوب العربي ارتبطت بالجغرافيا والأرض والتاريخ والمذهب الواحد الذي عرفه الجنوب منذ الأحباش والفرس والرومان والهولنديين، ومروراً بثوراته المعروفة في القرن العشرين ضد الاستعمار البريطاني، وانتهاءً بأهم إنجاز للثورة الجنوبية المعاصرة في ستينيات القرن ذاته عندما أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة سبعة قرارات دولية باسم الجنوب العربي (1963-1967م)".
ويذكّرنا الغريب بالهجمات التي تعرض الجنوب العربي على مدى التاريخ لاحتلاله ومسخ هويته الجغرافية والثقافية. ومن تلك الهجمات "الغزوات التي تعرض لها من طرف جارته (الدولة القاسمية) قبل 500 عام، وهو مشروع استهدفه في وجوده الثقافي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي الحضاري والإنساني بشكل عام".
ويرى الغريب أن "الوجود الواقعي لهوية الجنوب العربي يواجه إرادة المشروع اليمني الذي أراد أن يجعل من الجنوب وطناً بدون هوية ليتم تسليمه لهوية افتراضية ليس لها تاريخ، هي اليمن التي تأسست كدولة عام 1918/ 1922. والهوية اليمنية ما كان يمكن أن يحتاجها الشعب اليمني عام 1922 لولا خروج الأتراك بعد هزيمتهم في الحرب العالمية الثانية 1918م، التي استدعت مثل هذه الهوية لإنقاذ اليمن من الحروب المذهبية والتمزق القبلي. وقامت اليمن بحدود تلك الدولة، ورسمت مع الجنوب العربي حدودها الدولية، ووقعت مع سلاطين الجنوب عليها، مثلما وقعت مع المملكة العربية ترسيم الحدود عام 1934".
ثمّ يتناول المحامي الغريب الآليات التي اتبعها اليمنيون ليمننة الجنوب العرب قبيل وبعد رحيل البريطانيين في 30 نوفمبر 1967، حيث يكتب "شارك اليمنيون الذين جاؤوا بعد الاستقلال (30 نوفمبر 1967م) بنشاط في مختلف الأحزاب والجمعيات النقابات العمالية في عدن؛ التي تشكلت في فترات التحرر الوطني من الاستعمار البريطاني، وتبنوا أفكارها القومية والأممية غير الإصلاحية، وشعورهم بالانتماء لليمن انطبع بطابع خاص، طابع الانتماء إلى أرض ووطن محددين هو اليمن".
ويربط الغريب إحدى آليات اليمننة، التي برزت تسمية الدولة الوليدة التي حلت محل حكومة اتحاد الجنوب العربي في 30 نوفمبر 1967 بتأسيس الحزب الاشتراكي اليمني سنة 1978 قائلا: "تركت مسألة التنازل عن الهوية الجنوبية في تسمية الدولة الجنوبية الوليدة آثاراً قوية على الحركة الوطنية الجنوبية، وأشعرتها بعزلتها وسهل إضعافها أو التخلص منها. وأهم هذه الصدمات: التخلص من اسم "الجنوبية" (جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية) بعد الانقلاب على الرئيسين قحطان الشعبي وسالم ربيع علي، وانهيار الحكم الجنوبي الذي كان يجسد من خلال سلاطين الجنوب ومشايخه وأحزابه وتنظيماته السياسية التي لم تستطع الصمود أمام المد القومي والأممي في الجنوب. في تلك الظروف، انعقد المؤتمر التأسيسي للحزب الاشتراكي اليمني عام 1978م، ولأول مرة لم يشر المؤتمر إلى الهوية الجنوبية، كما طالب بالوحدة مع اليمن، بل دعا هذا المؤتمر لأول مرة إلى "تشكيل حكومة يمنية في الجنوب"؛ ولذلك فإنه بالإمكان اعتبار هذا المؤتمر نقطة الانطلاق العملية ليمننة الجنوب العربي".
كما يرى الغريب أن تفاعل بعض الأصوات الخارجية مع تيار يمننة الجنوب العربي يرتبط في الحقيقة بتأييدها للأفكار القومية أو تخوفها منها، قهو يكتب: "مما لا شك فيه أن هوية (اليمننة) في الجنوب قد نشأت وتبلورت بفعل تفاعل عوامل خارجية، وتفاعلها مع عوامل داخلية، خاصة الهويات المضادة. وفي هذا الإطار. وكان تيار "اليمننة" ينطلق من نفس الأفكار القومية، ولكنه يصل إلى نتائج مختلفة معها؛ فكان يرى – انطلاقًا من أن اليمن مدعومة من الدول العربية والغربية - أن بقاء الجنوب جزءاً من اليمن سيجعل من المعقول الضغط من أجل نشر الثورة في الجزيرة العربية". ولكن اليمن (الجمهورية العربية اليمنية) ظلت محتفظة بهويتها ورافضة أن تعطي الجنوبيين العائشين في صنعاء وثيقة يمنية، أيام الحكم الملكي كان يطبع على جواز سفر المواطن الجنوبي ختم خاص بالجنوبيين (حامل هذا الجواز من أبناء الجنوب العربي)، وبعد ثورة سبتمبر 1962م كان نظام الجمهورية العربية اليمنية يمنح المواطن الجنوبي هوية "جنوبي مقيم". وظلت تلك الوثائق تستعمل في التعامل مع المواطنين الجنوبيين لتعني غير اليمنيين إلى عام 1990".
ويرى الغريب أن الحراك الجنوبي يعدُّ تجسيدا حقيقيا لإرادة أبناء الجنوب في استعادة هويتهم، فهو قد شكل أول مسمار في نعش تيار اليمننة، ويضيف: "صار تيار اليمننة بعد انطلاقة الحراك الجنوبي السلمي في أضعف أحواله، وتراجعت برامجه السياسية الحزبية في الجنوب، لتستقر إما في سياسات نظام الاحتلال أو في سياسات أحزاب اللقاء المشترك اليمنية - وليس الجنوبية - فلم تكن هنالك مجابهة هامة بين الجنوبيين لشعارات الهوية الجنوبية، لا على الصعيد العملي، ولا حتى على الصعيد النظري أو السياسي. بل إن العديد من الحزبيين الجنوبيين المشهود لهم بوطنيتهم قد استجابوا للأمر الواقع، وانغمسوا فيه، واجتهدوا في تطويره ودفعه إلى الأمام. ويدل ذلك على ضبابية الوعي لدى أغلب المناضلين الجنوبيين، سواء كانوا حزبيين أو غير حزبيين، الذين لم تكن نضالاتهم السابقة متعارضة، بل كانت متقاطعة أحياناً ومترابطة أحياناً أخرى، مع النضالات القومية، إضافة إلى أنهم لم يمارسوا حكم أنفسهم بأنفسهم؛ ولذلك عندما احتل الجنوب عام 1994م من قبل اليمن، وعندما اشتدت وتيرة الحراك الثوري التحرري، كان - من جهة - يساورهم الشعور بأنهم يتنازلون عن حكم الحزب الاشتراكي للجنوب، و - من جهة أخرى - يساورهم شعور آخر بأن هويتهم وكيانهم فعلاً منفصل عن اليمن، وبالرغبة في الاستقلال، هوية لها عمقها التراثي، وامتيازاتها التاريخية، المادية منها والروحية".
واختتم المحامي علي هيثم الغريب مقالته البحثية بالتمييز بين ثلاثة عوامل ساعدت على صمود مقاومة أبناء الجنوب التيار اليمننة ومحاولات دفن الهوين الجنوبية، حيث كتب: "رغم محاولات دفن الهوية الجنوبية خلال نصف قرن من الزمن، وهذا الركام فوقها، فإن وعي الجنوبيين بهويتهم الجنوبية لم يمت. وقد ساعد على بقاء هذا الوعي حيًّا ثلاثة مكونات:
المكون الأول: التمييز وسوء المعاملة التي لقيها الجنوبيون النازحون إلى اليمن بحكم الصراعات الأيديولوجية في الجنوب، حيث كان الجنوبيون هم أكثر عرضة للتمييز. فقد كانوا، من الناحية القانونية، جنوبيين لهم كل حقوق الأجنبي، لا يحق لهم التوظيف في كل المجالات، وبخاصة في الجيش والأمن. لكن التمييز ضد الجنوبيين في صنعاء لم يدفعهم باتجاه البحث عن مدلولات سياسية يمنية، بل ظلوا متمسكين بتكويناتهم السياسية الجنوبية، وإحساسهم بجنوبيتهم، بل لم يطلبهم أحد من الحركات السياسية المعارضة للنظام في صنعاء، بل حددت لهم أماكن خاصة للعيش.
المكوّن الثاني: بقاء وتنامي وعي الجنوبيين بأهمية التمسك بهويتهم عبر انتشار الوعي العام بين الجنوبيين. فالجنوبيون الذين فقدوا أملاكهم في الجنوب جراء السياسات الخاطئة، وفقدوا وظائفهم جراء الصراعات السياسية، لم يبق أمامهم إلا الغربة لكسب العيش. وهناك، ومن خلال العمل وانفتاح آفاقهم، والتقاء الجنوبيين من كافة مناطق الجنوب، بل ومن كثير من البلدان الأجنبية معاً في مؤسسة اقتصادية واحدة، وفي تعاون واحد، تعزز وعيهم بجنوبيتهم، رغم اختلاف البيئات التي يعيشون فيها.
المكوّن الثالث: مواجهة الاحتلال اليمني بعد حرب 1994م، حيث إن احتلال اليمن للجنوب أنعش وعي الجنوبيين جميعاً بهويتهم الواحدة. وحتى الذين شاركوا بتسليم الجنوب عام 1990م أو الذين اشتركوا بحرب 1994م والذين قاسوا من حرب الإخوة في الجنوب طوال أعوام ما قبل إعلان مشروع الوحدة، اقتضت الضرورة مراجعة شاملة للماضي، حيث وجد الجنوبيون أنفسهم أمام عدوهم التاريخي وجهاً لوجه، يتعرضون للقتل والتدمير والانتقام الجماعي. وجاء التسامح والتصالح في 13 يناير 2006م في عدن تتويجاً لهذه المراجعة التاريخية، وأن الاحتلال اليمني يفرض عليهم المواجهة الجماعية. ونستطيع القول إن السنوات الأولى للحراك الجنوبي السلمي شهدت الإرهاصات الجدية الأولى لاستعادة الهوية الجنوبية، حيث بقيت فروع الأحزاب اليمنية في الجنوب متمسكة بالهوية اليمنية، وبعدد من الظواهر السياسية والمطالب الخاصة بها. وظلت اليمننة عائقًا أمام وحدة مكونات الحراك الثوري الجنوبي، التي عبرت عن نفسها عبر مؤسسات الاحتلال المختلفة والأحزاب اليمنية، ومع تصاعد الحراك الثوري استمر بعض تلك الفروع الحزبية في الجنوب، وعجز بعضها الآخر عن الاستمرار، وأصبح جزءاً من التاريخ.
وإذا كانت الهوية الوطنية لمعظم الشعوب تبلورت على شكل دول؛ مثل ما هي عليه الحال في الدول العربية الحديثة، فإن الهوية الجنوبية تبلورت على شكل تاريخ كهوية عربية، ومقاومة مناضلة للغزاة الأجانب لإثبات الوجود في مواجهة إرادة الاجتثاث والنفي، مما يجعل منها هوية عربية أصيلة ونضالية في جوهرها. ولذلك كان التعبير الأقوى عن الهوية الوطنية الجنوبية منذ الغزوات البرتغالية والقاسمية، وضد الاستعمار البريطاني. وكانت أقوى تعبير عن الهوية؛ إلا أن الأفكار القومية والأممية قاومتها بشكل مطلق، وشككت بتعبيرها عن الهوية الجنوبية. أما بقية القوى السياسية الجنوبية التي كانت قائمة في ستينيات القرن الماضي، وإن أجمعت على ضرورة التمسك بالهوية الجنوبية؛ وتعارضت في الرؤية فيما بينها حول العديد من المسائل، ومنها شكل النظام السياسي واسم الدولة، فإنها لم تختلف على الهوية والكيان الجنوبي مهما اختلفت تسمياته.
إن الشخصية الجنوبية أصبحت ضرورة دبلوماسية لمساعدة المجهود النضالي الدبلوماسي في المجالات الدولية، وأي خروج على مفهوم الهوية يعني بعثرة للجهد وتعطيلاً للوحدة الوطنية الجنوبية".