4 مايو/ تقرير / رامي الردفاني
في منعطف تاريخي بالغ الحساسية، يقف الجنوب أمام استحقاقات كبرى تتجاوز السياسة بمعناها التقليدي، لتلامس جوهر الهوية والوعي الجمعي، حيث يتقاطع القرار الوطني مع البعد الديني بوصفه أحد أخطر ميادين الصراع غير المعلَن. وفي هذا السياق، يبرز قرار تشكيل هيئة إفتاء جنوبية كخطوة استراتيجية تهدف إلى تحصين القرار المصيري من أي توظيف ديني معادٍ، واستعادة السيطرة على خطاب طالما استُخدم ضد الجنوب في محطات مفصلية من تاريخه.
ونقلا عن موقع العين الثالثة عن ما كتبه الناشطة السياسية وداد الدوح أعادت فتح هذا الملف الشائك، واضعةً القرار في سياق ذاكرة جنوبية مثقلة بتجربة مريرة، حين تحولت الفتوى إلى أداة حرب، وغدا التكفير بوابة لاجتياح الأرض ومصادرة الحق السياسي باسم الدين.
كما تستحضر الدوح حرب صيف 1994 باعتبارها المثال الأبرز على خطورة ترك المجال الديني بلا إطار مؤسسي وطني، ففي تلك المرحلة لم تكن المواجهة عسكرية فقط، بل فكرية وعقائدية، حيث أُطلقت فتاوى تكفيرية صريحة استهدفت الجنوب ككيان ومجتمع، وجرى توظيفها لإضفاء “مشروعية دينية” على الحرب.
وتشير إلى أن تبنّي وزير العدل آنذاك عبدالوهاب الديلمي لتلك الفتاوى منحها غطاء رسميًا، محولًا الدين من مساحة جامعة إلى أداة إقصاء، ومكرّسًا منطق الخصومة العقائدية بدل الخلاف السياسي، في ظل غياب أي مرجعية جنوبية قادرة على المواجهة أو التفكيك الشرعي لذلك الخطاب..
وترى الدوح أن أخطر ما واجهه الجنوب آنذاك لم يكن فقط صدور الفتاوى، بل غياب الفتوى المضادة، وغياب المؤسسة التي تمتلك الشرعية والقدرة على الرد من داخل المنظومة الدينية نفسها وهذا الفراغ سمح بتمرير خطاب متشدد دون مقاومة فكرية حقيقية، وفتح الباب أمام استفراد قوى بعينها بالمشهد الشرعي، واستخدامه لاحقا كلما اقترب الجنوب العربي من استعادة قراره السياسي.
وفي هذا الإطار، تبرز أهمية وجود هيئة إفتاء جنوبية موحّدة باعتبارها حجر الزاوية في تحصين المشهد الديني ومنع تشظيه أو اختراقه سياسيًا، إذ تشكّل مرجعية شرعية وطنية تضبط الخطاب الديني وتوحّد الموقف الشرعي في القضايا المصيرية، وفي مقدمتها استحقاق إعلان الدولة. كما تسهم في تجفيف منابع الفتاوى المتطرفة، ومواجهة أي محاولات لإعادة إنتاج خطاب التكفير أو التوظيف الديني، عبر قراءة فقهية مسؤولة تنسجم مع خصوصية المجتمع الجنوبي ومتطلبات المرحلة، لتتحول الهيئة إلى عامل استقرار وحماية للقرار الوطني، لا أداة صراع أو ابتزاز شرعي.
وتؤكد الدوح أن القيادة الجنوبية اليوم تبدو أكثر إدراكًا لطبيعة المعركة الشاملة، وأن الصراع لم يعد محصورًا في السياسة أو الميدان، بل يمتد إلى الوعي والشرعية والمعنى. وتوضح أن تشكيل هيئة الإفتاء لا يأتي كردة فعل آنية، بل كخطوة استباقية تهدف إلى إغلاق بوابة العبث الديني، ومنع إعادة إنتاج سيناريو 1994 بأدوات جديدة وعناوين مختلفة.
وتضع الدوح مسألة إعلان الدولة الجنوبية في صدارة الملفات التي تستدعي حضورًا شرعيًا مؤسسيًا، معتبرة أن القرار، رغم طابعه السياسي، ظل تاريخيًا عرضة للطعن الديني والتشويه العقائدي. وترى أن وجود هيئة إفتاء جنوبية مستقلة من شأنه توفير غطاء شرعي وطني يحصّن خيار الاستقلال، ويمنع تحويله إلى مادة للتكفير أو التخوين.
وتشدد الدوح على أن الهدف من تشكيل الهيئة ليس عسكرة الدين ولا توظيفه في الصراع، بل إعادة وضعه في موقعه الطبيعي كعامل توازن واستقرار، ومرجعية أخلاقية ترافق مشروع الدولة وتحميه من الانحراف أو الاختراق.
بين ذاكرة فتاوى حرب الاحتلال اليمني واستحقاق السيادة، يبدو الجنوب اليوم أكثر وعيًا بكلفة الغياب، وأكثر استعدادًا لبناء مؤسسات تحمي قراره الوطني وفي هذا السياق، تمثل هيئة الإفتاء الجنوبية خطوة مفصلية لإغلاق صفحة التوظيف الديني، وتثبيت معادلة جديدة عنوانها الدين حارس للقرار الوطني لا سلاحًا موجهًا ضده.