4 مايو/ تقرير/ محمد الزبيري
شهدت محافظات الجنوب العربي، بدءاً من العاصمة عدن وصولاً إلى أقصى الشرق في المهرة وأقصى الغرب في لحج، مروراً بحضرموت الاستراتيجية وجزيرة سقطرى، انطلاق اعتصامات جماهيرية مفتوحة وغير مسبوقة، جاءت استجابة لدعوة حاسمة أطلقها المجلس الانتقالي الجنوبي.
هذه الاعتصامات، التي بدأت تتشكل في ساحات المدن الرئيسية يوم الأحد الموافق 7 ديسمبر 2025، تمثل ذروة تصعيدية لمطالب شعب الجنوب العربي بـ"الاستقلال الثاني" واستعادة دولتهم كاملة السيادة.
لم تكن هذه الدعوة مجرد تظاهرة عابرة، بل تحول جذري في مسار القضية الجنوبية، حيث تهدف إلى تحويل السيطرة العسكرية والأمنية التي حققتها القوات الجنوبية المسلحة على الأرض إلى إنجاز سياسي لا رجعة فيه، وهو إعلان قيام دولة الجنوب العربي.
المشهد في ساحة العروض بخور مكسر في العاصمة عدن، وفي سيئون والمكلا بحضرموت، الغيضة بالمهرة، وفي عواصم شبوة ولحج وأبين وسقطرى والضالع يروي قصة شعب قرر أن يضع مصيره بيده، مؤكداً أن مرحلة التحرير العسكري قد اكتملت، وأن المرحلة التالية هي مرحلة "التحرير السياسي" وإنجاز الاستقلال.
تأتي الحركة الاحتجاجية الواسعة النطاق، التي تجاوزت في حجمها وتنسيقها أي تحرك سابق، في ظل ظروف إقليمية ودولية معقدة، وتطرح تساؤلات جوهرية حول مستقبل المنطقة، وإلى أين وصلت القضية الجنوبية بعد سنوات من الصراع والتحرير.
التقرير التالي يرصد تفاصيل هذه الاعتصامات، دوافعها، أصداءها، ومآلاتها المحتملة، وتفاعل الشارع الجنوبي مع هذا الحراك المصيري.
*البيان الحاسم: "إعلان الاستقلال الثاني"الهدف الأوحد*
جاءت الدعوة إلى الاعتصامات الجماهيرية المفتوحة عبر بيان جماهيري حاسم أصدره المجلس الانتقالي الجنوبي، وتحديداً قيادة العاصمة عدن، مساء السبت 6 ديسمبر 2025، ليكون بمثابة الشرارة التي أطلقت الموجة الاحتجاجية.
لم يكن البيان مجرد دعوة للمشاركة، بل كان وثيقة سياسية جامعة تحدد الهدف الأسمى للحراك، وهو "المطالبة بإعلان الاستقلال الثاني لدولة الجنوب العربي وتمكين الشعب من تقرير مصيره".
البيان أكد أن هذه الخطوة تأتي تتويجاً للتضحيات الجسيمة التي قدمها شعب الجنوب وقواته المسلحة في معارك التحرير ضد القوى المعادية، مشيراً إلى أن الوقت قد حان لقطف ثمار هذا النضال.
ركز البيان على فكرة "استنفاد الخيارات" السياسية، وأن المشاركة في هياكل السلطة القائمة لم يعد كافياً لتلبية تطلعات الشعب الجنوبي،كما شدد على أن الاعتصام هو تعبير سلمي وحضاري عن إرادة شعبية لا يمكن تجاهلها، موجهاً رسالة واضحة إلى المجتمع الإقليمي والدولي بضرورة احترام حق الجنوبيين في تقرير مصيرهم.
لم يقتصر البيان على عدن، بل وجه نداءً إلى "جماهير شعب الجنوب العربي في كافة المديريات والساحات" للمشاركة الفاعلة، مما يؤكد التنسيق المركزي للتحرك ليشمل كافة المحافظات الجنوبية الثمان في تحول يعكس مدى الجاهزية التنظيمية للمجلس الانتقالي الجنوبي وقدرته على حشد الشارع في لحظة تاريخية فارقة
كما أن البيان يمثل نقطة تحول، حيث انتقل الخطاب من المطالبة بالشراكة أو تحسين الأوضاع إلى المطالبة الصريحة والملحة بالاستقلال الكامل.
*الرئيس الزُبيدي:تشديد على ضرورة الاصطفاف والتلاحم*
تزامنت الدعوة للاعتصامات مع سلسلة من التصريحات والمواقف لقادة المجلس الانتقالي الجنوبي، وعلى رأسهم الرئيس القائد عيدروس قاسم الزُبيدي، نائب رئيس مجلس القيادة الرئاسي ورئيس المجلس الانتقالي الجنوبي.
في خطابه الموجه لشعب الجنوب أكد الزُبيدي على أهمية "التلاحم والاصطفاف الوطني" خلف القوات المسلحة والأمن الجنوبي، مشدداً على أن هذه القوات هي الضامن الوحيد لتحقيق تطلعات الشعب.
التركيز على الجانب العسكري والأمني يأتي في سياق الانتصارات الأخيرة التي حققتها القوات الجنوبية، خاصة في وادي حضرموت، والتي اعتبرها المجلس الانتقالي خطوة محورية على طريق استعادة الدولة. كما وجه الزُبيدي رسائل طمأنة لأبناء المحافظات، مؤكداً دعم المجلس لتمكينهم من "إدارة شؤونهم" بأنفسهم، في إشارة إلى استكمال السيطرة الإدارية والسياسية على كافة الأراضي الجنوبية المحررة وأن دولة الجنوب العربي القادمة ستكون دولة فيدرالية ديمقراطية تدار فيها كل محافظة من قبل ابناءها تحت مظلة الدولة الموحدة.
من جهته، وجه رئيس الهيئة التنفيذية للمجلس الانتقالي في لحج دعوة صريحة لأبناء المحافظة للاعتصام المفتوح "حتى استعادة دولة الجنوب" وفي حضرموت، طالب رئيس انتقالي وادي وصحراء حضرموت العالم بـ"احترام تطلعات شعب الجنوب العربي باستعادة دولته".
هذه التصريحات مجتمعة ترسم صورة لقيادة موحدة، تستند إلى قوة الشارع والانتصارات العسكرية، وتستخدم الاعتصامات كأداة ضغط سياسية لإجبار الأطراف الإقليمية والدولية على الاعتراف بحق الجنوب في الاستقلال.
*عدن ولحج: العاصمة والعمق الاستراتيجي تطلقان الشرارة*
كانت العاصمة عدن، وتحديداً ساحة العروض في خور مكسر، هي نقطة الانطلاق الرئيسية للاعتصامات، وشهدت المشهد الأقوى والأكثر تنظيماً.
توافدت الحشود الجماهيرية من مختلف مديريات عدن والمحافظات المجاورة، حاملة أعلام دولة الجنوب العربي وصور القادة الجنوبيين ومرددة شعارات تطالب بالاستقلال الفوري.
وخلال ساعات ظهر تفاعل الشعب الجنوبي جلياً فالمشهد في ساحة العروض، التي بدأت تتحول إلى مدينة خيام، عكس إصراراً شعبياً على البقاء في الساحة حتى تحقيق الهدف.
وأن هذه الاعتصامات ليست مجرد تجمعات بل هي بمثابة "استفتاء شعبي" على خيار الاستقلال، ومنبر سياسي وإعلامي، تُلقى فيه الكلمات وتُعقد فيه الندوات التي تؤكد على حق الجنوبيين في استعادة دولتهم.
ومن البداية تميزت الاعتصامات بـ"التنظيم القوي"، حيث أشرفت قيادات محلية على ترتيب المخيمات وتأمين المعتصمين، مما يعكس خبرة سابقة في إدارة مثل هذه الحشود.
أما في محافظة لحج، التي تمثل العمق الاستراتيجي للعاصمة عدن، فقد كانت الاستجابة للدعوة سريعة وقوية.
لحج، بتاريخها النضالي، انضمت إلى موجة الاعتصامات، مؤكدة على وحدة الهدف والمصير مع العاصمة.
الدعوة الصادرة عن قيادة انتقالي لحج بالاعتصام "حتى استعادة دولة الجنوب" تعكس مدى التعبئة الشعبية في هذه المحافظة الحيوية، وتؤكد أن الحراك ليس مقتصراً على المراكز الحضرية الكبرى، بل يمتد ليشمل المناطق الريفية والاستراتيجية.
*حضرموت: سيئون والمكلا في صدارة المشهد الجنوبي*
تمثل محافظة حضرموت، بواديها وساحلها، الوزن الثقيل في المعادلة الجنوبية، وقد شهدت انطلاق الاعتصامات فيها زخماً خاصاً، خاصة بعد التطورات العسكرية الأخيرة.
الدعوة للاعتصام المفتوح شملت مدينتي المكلا (الساحل) وسيئون (الوادي)، الأمر الذي يؤكد بوضوح الموقف الحضرمي الحاسم خلف خيار الاستقلال والذي تؤيده الأغلبية الساحقة من ابناء حضرموت.
في المكلا، عاصمة المحافظة الساحلية، تم نصب خيام الاعتصام، حيث طالب المعتصمون الرئيس الزُبيدي بـ"إعلان دولة الجنوب"، مما يشير إلى أن الحراك يهدف إلى دفع القيادة السياسية نحو اتخاذ القرار النهائي. أما في سيئون، حاضرة وادي حضرموت، فقد كان المشهد أكثر زخماً ، نظراً لأن الاعتصام في سيئون، الذي جاء بعد فترة وجيزة من انتصارات القوات الجنوبية في وادي حضرموت، يمثل تحدياً سياسياً وعسكرياً واضحاً، ويؤكد أن "تباشير استقلال الجنوب العربي تلوح من سيئون"، كما وصفها بعض الناشطين بعدما كانت سيئون هي المدينة التي زفت للجنوب بشائر التحرير.
وقد أشار قادة المجلس الانتقالي إلى أن الانتصارات الأخيرة في وادي حضرموت تجسد نهج القيادة في "حماية الجنوب العربي وبسط الأمن"، وأن الاعتصامات هي استكمال لهذا النهج على المستوى الشعبي والسياسي.
*المهرة وشبوة:رئتي الجنوب*
لم تقتصر موجة الاعتصامات على عدن وحضرموت، بل امتدت لتشمل محافظتي المهرة وشبوة، مما يعطي الحراك بعداً جغرافياً شاملاً.
في المهرة، أقصى الشرق الجنوبي، بدأ أبناء المحافظة اعتصاماً مفتوحاً في مديرية الغيضة، استجابة لدعوة الهيئة التنفيذية للمجلس الانتقالي هناك في تحرك يؤكد أن المطالبة بالاستقلال أصبحت قضية وطنية جامعة
أما شبوة، المحافظة النفطية الهامة، فقد شهدت أيضاً حراكاً جماهيرياً قوياً، حيث انضم أبناؤها إلى موجة الاعتصامات، مؤكدين على دورهم في دعم خيار الاستقلال.
شبوة، التي شهدت صراعات عسكرية وسياسية محتدمة للسيطرة على مواردها، تعتبر مفتاحاً اقتصادياً للجنوب. ومشاركتها القوية في الاعتصامات تعزز من الموقف الاقتصادي للدولة الجنوبية المنشودة، وتؤكد أن السيطرة على الأرض تترافق مع تأييد شعبي واسع.
يرسخ انضمام المهرة وشبوة إلى الاعتصامات فكرة "وحدة الصف الجنوبي" من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، ويضع المجلس الانتقالي في موقف تفاوضي أقوى، حيث يمثل إرادة شعبية عابرة للمناطق. كما أن هذا التوسع الجغرافي يرسل رسالة واضحة إلى القوى الإقليمية والدولية بأن المطالبة بالاستقلال ليست محصورة في منطقة معينة، بل هي إجماع وطني جنوبي.
*أبين وسقطرى: البعد الاستراتيجي والجغرافي يكتمل*
لإكمال الصورة الجغرافية والسياسية، انضمت محافظتا أبين وسقطرى إلى موجة الاعتصامات، مما يضفي على الاعتصامات بعداً استراتيجياً وجغرافياً كاملاً.
أبين، التي تمثل البوابة الشرقية لعدن، كانت دائماً مسرحاً للصراعات، ومشاركتها في الاعتصامات تؤكد على تأمين العمق الاستراتيجي للعاصمة. فأبناء أبين، الذين قدموا تضحيات كبيرة في معارك التحرير، يرون في الاعتصامات الخطوة الأخيرة نحو تحقيق الاستقرار السياسي الذي ينهي حالة الصراع الدائم ويعيد للمحافظة ثقلها وأهميتها التاريخية بعد عقود من التهميش والتدمير الذي تعرضت له المحافظة من قبل الاحتلال اليمني.
أما سقطرى، الجزيرة الاستراتيجية ذات الأهمية الجيوسياسية الكبرى، فقد شهدت أيضاً حراكاً جماهيرياً داعماً للاعتصامات.
سقطرى، التي تتمتع بموقع فريد في المحيط الهندي، تضفي على المطالبة بالاستقلال بعداً دولياً، وتؤكد أن الدولة الجنوبية المنشودة تشمل كامل حدودها التاريخية ورغم بعد المسافة، إلا أن سقطرى تفاعلت مع دعوة الرئيس الزبيدي في خطوة تعكس مدى التعبئة الشاملة التي قام بها المجلس الانتقالي الجنوبي.
هذه المشاركة من أبين وسقطرى تكتمل بها خريطة المحافظات الجنوبية الثماني (عدن، لحج، أبين، الضالع، شبوة، حضرموت، المهرة، سقطرى)، مما يمنح الاعتصامات شرعية جغرافية شاملة، ويجعل من الصعب على أي طرف إقليمي أو دولي التقليل من شأن هذا الحراك أو اعتباره مجرد تحرك محلي محدود.
*"الاستقلال الثاني" ترند لا يتوقف*
كان تفاعل الناشطين والإعلاميين والمواطنين مع دعوة المجلس الانتقالي للاعتصامات فورياً وعاصفاً، وتحولت منصات التواصل الاجتماعي إلى ساحة موازية للاعتصام.
تحت وسم "#الاستقلال_الثاني" و"#اعتصام_الجنوب_المفتوح"، عبر الآلاف عن تأييدهم المطلق للحراك، مؤكدين أن هذه هي اللحظة الحاسمة لتقرير المصير.
الناشطون والإعلاميون الجنوبيون لعبوا دوراً محورياً في التعبئة، حيث قاموا بنشر صور ومقاطع فيديو مباشرة من ساحات الاعتصام، وتغطية تفاصيل نصب الخيام وتوافد الحشود، مما ساهم في رفع الروح المعنوية وتوسيع قاعدة المشاركة.
كما قاموا بتحليل البيان الصادر عن المجلس الانتقالي، مؤكدين على أنه يمثل "نهاية مرحلة الشراكة" وبداية مرحلة الحسم.
المواطنون العاديون، الذين يعانون من تدهور الأوضاع الاقتصادية والخدمية، رأوا في الاعتصامات فرصة أخيرة لتحقيق الاستقرار المنشود. تعليقاتهم كانت تركز على أن التحرير العسكري لا يكتمل إلا بالاستقلال السياسي، وأن استمرار الوضع الراهن يعني استمرار المعاناة.
أحد المواطنين كتب على صفحته: "سأشارك في الاعتصام الذي دعا إليه المجلس الانتقالي الجنوبي في ساحة العروض عدن للمطالبة بالاستقلال الثاني. مع أنني أول مرة سأشارك في اعتصام..."، مما يعكس مدى تأثير الدعوة على شرائح جديدة من المجتمع ويؤكد أن المطالبة بالاستقلال هي "قضية شعبية" بامتياز.
*الجنوب العربي اليوم: من التحرير العسكري إلى الحسم السياسي*
السؤال الجوهري الذي يطرحه هذا الحراك هو: إلى أين وصل الجنوب العربي اليوم بعد تحرير كافة الأراضي الجنوبية؟ الإجابة تكمن في أن الجنوب العربي قد انتقل من مرحلة "التحرير العسكري" إلى مرحلة "الحسم السياسي".
نجحت القوات الجنوبية، ممثلة في القوات المسلحة الجنوبية وقوات النخبة، في بسط سيطرتها على غالبية الأراضي الجنوبية، بما في ذلك المناطق الاستراتيجية في حضرموت وشبوة وأبين وهذا التحرير، الذي تم بدعم من التحالف العربي، أدى إلى إنهاء الوجود العسكري للقوى الشمالية في الجنوب مما يمنح المجلس الانتقالي "شرعية الأمر الواقع" على الأرض.
الاعتصامات الجماهيرية اليوم تهدف إلى تحويل السيطرة العسكرية إلى "إعلان دولة" في رسالة واضحة بأن الشعب الجنوبي لم يعد يقبل بالحلول الوسط أو الشراكة التي لا تضمن له استعادة دولته.
يرى المراقبون أن الاعتصامات تضع المجتمع الإقليمي والدولي أمام خيارين: إما الاعتراف بحق الجنوبيين في تقرير مصيرهم ودعم إعلان الدولة الجنوبية، أو مواجهة تصعيد شعبي وسياسي قد يؤدي إلى انهيار مجلس القيادة الرئاسي وعودة الصراع إلى نقطة الصفر.
لهذا السبب يستغل المجلس الانتقالي الجنوبي هذه الاعتصامات كـ"ورقة ضغط أخيرة" لإجبار الأطراف على القبول بالحل الجنوبي، مؤكداً أن الجنوب اليوم، بعد تحرير أراضيه، أصبح جاهزاً ومؤهلاً لإدارة شؤونه وإعلان دولته المستقلة.
إن الاعتصامات الجماهيرية المفتوحة التي انطلقت في ثماني محافظات جنوبية، بدعوة من المجلس الانتقالي الجنوبي، تمثل مفترق طرق تاريخياً في مسار القضية الجنوبية.
لقد تحول المشهد من صراع عسكري إلى حراك شعبي سياسي واسع النطاق، يهدف إلى تتويج التضحيات بإعلان الاستقلال. مع استمرار تدفق الحشود إلى ساحات الاعتصام، وتصاعد حدة التصريحات المطالبة بالحسم، يبدو أن الجنوب العربي يقف على أعتاب مرحلة جديدة، ستغير خريطة المنطقة وتعيد رسم الحدود السياسية وفقاً لإرادة شعب قرر أن ينهي عقوداً من الانتظار، ويستعيد دولته كاملة السيادة.