اخبار وتقارير

الإثنين - 25 أغسطس 2025 - الساعة 04:50 م بتوقيت عدن ،،،

4مايو/تقرير خاص-محمد الزبيري




في الوقت الذي يغرق فيه اليمن الشمالي بالفوضى والأزمات المعيشية ويعاني الشعب من سطوة المليشيات الحوثية التي تمارس أبشع جرائم القهر والقمع والظلم والإرهاب،يمثل الجنوب العربي نموذجًا نادرًا للاستقرار في قلب منطقة مضطربة تتقاطع فيها مصالح العديد من القوى التي تتصارع فيما بينها لحماية مصالحها.

المدن الجنوبية، بدءًا من العاصمة عدن، مرورًا بالمكلا ولحج وأبين، وصولاً إلى شبوة والضالع، استطاعت أن تحافظ على مستويات معيشية مستقرة نسبيًا، رغم الحرب المستمرة في شمال البلاد ويكمن السر في الفارق بين ما يمكن تسميته بـ"الأمن الاختياري" في الجنوب و"الأمن القسري" الذي يمارسه الحوثيون.
في الجنوب، يرتكز الأمن على قواعد مؤسسية واضحة، وتعاون المجتمع المدني مع القوات الأمنية، ما يسمح بوجود حرية نسبية ونظام قانوني يحمي الحقوق الأساسية. أما في الشمال، فالقمع والعسكرة هما الوسيلة الوحيدة لفرض النظام، ما يخلق مجتمعًا محاصرًا تحت تهديد دائم.

الاستقرار الجنوبي لم يكن نتيجة لحظية، بل جاء نتيجة استراتيجية دقيقة للمجلس الانتقالي الجنوبي بقيادة الرئيس القائد عيدروس الزُبيدي، الذي حرص على بناء مؤسسات قوية، قادرة على فرض القانون وحماية المواطنين، مع تعزيز دور المجتمع المحلي في حفظ السلم الأهلي. ويعكس نجاح هذه الاستراتيجية قدرة الجنوب على تحويل الأزمات إلى فرص لبناء نموذج فريد يمزج بين الأمن والتنمية وحقوق الإنسان.


*انضباط أمني ومجتمع متماسك

أحد أبرز عناصر الاستقرار في الجنوب هو التوازن بين القوة العسكرية والانضباط المجتمعي في الجنوب.
القوات المسلحة والأمنية الجنوبية مدربة على أعلى المستويات، وتعمل ضمن إطار من القوانين الصارمة التي تحمي المدنيين، وتتيح لهم المشاركة في رسم السياسات المحلية عبر المجالس الشعبية ولجان الأحياء.

كما أن المجتمع الجنوبي من جانبه، يشارك بنشاط في الحفاظ على السلم الأهلي، سواء عبر التعاون المباشر مع الأجهزة الأمنية أو من خلال المبادرات المجتمعية التي تعزز الوعي بالأمن والمسؤولية.
في عدن، على سبيل المثال، استطاعت السلطات المحلية تنظيم حملات أمنية مشتركة بين الشرطة والمجتمع المدني لتأمين الأسواق والأحياء، مما أدى إلى انخفاض كبير في معدلات الجريمة،أما في المكلا، فقد أصبحت المدينة نموذجًا للأمن المجتمعي، مع قدرة ملحوظة على استيعاب الأزمات دون انهيار البنية التحتية، وهو ما يعكس نموذجًا فريدًا للتنمية المستدامة في بيئة شبه مستقرة، مقارنة بالشمال الذي يعاني من انهيار شبه كامل لمؤسساته الأمنية.


*ملاذ آمن من جحيم الشمال


تتزايد أعداد النازحين من مناطق الحوثيين المتأثرة بالصراع والعسكرة، متجهين نحو الجنوب بحثًا عن الأمان وفرص العيش الكريم.
هذه الهجرة الداخلية تشكل شهادة حية على نجاح النموذج الجنوبي، إذ يجد النازحون هنا بيئة تسمح لهم بإعادة بناء حياتهم، في ظل حماية أمنية وخدمات أساسية متاحة.

أبرز ما يميز هذه الهجرة هو ندرة الحركة العكسية، أي أن النازحين لا يعودون إلى مناطقهم الشمالية بسبب استمرار حالة القمع والعسكرة. هذا يعكس سمعة الجنوب كمكان موثوق به، قادر على تقديم بيئة مستقرة وآمنة، ويزيد من مصداقية القيادة الجنوبية على الساحة الوطنية والدولية.

النازحون يشيرون أيضًا إلى أن المؤسسات الحكومية في الجنوب قادرة على التكيف مع الضغوط السكانية، وتقديم خدمات تعليمية وصحية أساسية، وهو مؤشر على كفاءة الإدارة المحلية وقدرتها على إدارة الأزمات.

*الحوثيون وحكم القمع


على النقيض، تحولت مناطق الحوثيين إلى سجون كبيرة. الاعتقالات التعسفية، وملاحقة النشطاء والصحفيين، وتجريد المدنيين من حقوقهم الأساسية أصبحت واقعًا يوميًا.
الأطفال يجبرون على الانخراط في صفوف القتال، والمدارس تتحول إلى معسكرات تدريبية، فيما تتوقف المؤسسات المدنية عن أداء مهامها.

الحياة اليومية في هذه المناطق تتسم بالخوف وعدم الاستقرار، والمجتمع يغرق في دائرة من القمع والتجنيد القسري، حيث يستخدم الحوثيون العنف وسيلة أساسية لفرض النظام، وهو ما يقوض أي فرصة للنمو الاقتصادي أو للحياة الطبيعية. هذا الواقع يخلق بيئة يائسة تجعل من كل خطوة للأمام مخاطرة كبيرة على المدنيين، ويحول المناطق الشمالية إلى ما يشبه الحبس الجماعي المفتوح.

*حقوق الإنسان بين الجنوب والشمال


الجنوب يمتلك نموذجًا متقدمًا في احترام حقوق الإنسان، حيث تسعى مؤسساته ومجتمعه المدني إلى حماية الحقوق الأساسية لجميع المواطنين، بمن فيهم النساء، الأطفال، الصحفيون، والنازحون، ضمن إطار قانوني واضح وممارسات مؤسسية منظمة.
في المقابل، مناطق الحوثيين تعاني من انتهاكات جسيمة، تجعل من الحياة اليومية خطرًا مستمرًا على المدنيين.

في الجنوب، يتمتع المواطنون بحرية التنقل والمشاركة في الحياة العامة، مع وجود نظام قضائي يحمي الحقوق ويتيح طرقًا قانونية لمساءلة المسؤولين. أما في مناطق الحوثيين، فالقمع والاعتقالات التعسفية تجعل من ممارسة الحقوق المدنية والسياسية أمرًا محفوفًا بالمخاطر، حيث تتحكم المليشيات في كل شؤون الحياة اليومية، وتحد من حرية التعبير والتنظيم.
الجنوب يوفر للنساء بيئة أكثر عدلاً، تمكنهن من المشاركة في الاقتصاد والحياة العامة، على عكس الشمال حيث تُفرض قيود صارمة تحد من حرية المرأة.
أما الأطفال، في الجنوب يحصلون على فرص تعليمية ونشاطات مجتمعية تضمن تنشئتهم في بيئة آمنة، بينما يجبر الحوثيون الأطفال على الانخراط في القتال، وتحويل المدارس إلى معسكرات تدريبية، مما يهدد مستقبلهم بشكل مباشر

يسمح الجنوب للمنظمات الإنسانية بالعمل بحرية نسبية، مع تسهيلات للوصول إلى المحتاجين، بينما تواجه المنظمات التي تحاول العمل في مناطق الحوثيين قيودًا وعراقيل متعددة، مما يزيد من معاناة المدنيين ويحد من فعالية المساعدات الدولية. هذا الانفتاح يعكس التزام الجنوب بمعايير حقوق الإنسان والعمل الإنساني، ويعزز قدرته على إدارة الأزمات بكفاءة.


*الإعلام الجنوبي


الإعلام في الجنوب يتمتع بمساحات للنقد والمساءلة، مع وجود صحافة مستقلة تنقل الواقع وتحقق قدرًا من الشفافية، ما يتيح للمواطنين متابعة الأحداث والمشاركة الفاعلة في الحياة العامة. بالمقابل، تعاني الصحافة في مناطق الحوثيين من قمع شامل، إذ يتم اعتقال الصحفيين وإغلاق وسائل الإعلام المستقلة، ما يزيد من عزلة المجتمع ويحد من وصوله للمعلومات.
توجد في الجنوب مؤسسات رقابية ومدنية تعمل على حماية الحقوق وتعزيز الوعي المجتمعي بها، ما يخلق بيئة أكثر أمانًا واستقرارًا، ويعزز ثقة المواطنين بمؤسساتهم.
أما في الشمال، فإن غياب أي مؤسسات مستقلة يضع الحقوق الأساسية تحت سيطرة المليشيات، ويجعل المجتمع محاصرًا في دائرة من الخوف والعنف.

*تحديات الجنوب


رغم النجاحات الكبيرة التي حققها الجنوب في مجال الأمن والاستقرار، يظل يواجه تحديات حقيقية ومعقدة تتطلب جهودًا مضاعفة وإدارة دقيقة.
على الصعيد الاقتصادي، تعاني المحافظات الجنوبية من ضغوط كبيرة، تتمثل في محدودية الإيرادات المحلية واعتمادها على دعم التحالف العربي والدعم الخارجي، مع استمرار ارتفاع معدلات البطالة بين الشباب، مما يخلق ضغطًا على الموارد المحلية ويزيد من احتمالية الاحتكاك الاجتماعي في بعض المناطق.
كما أن بعض المشاريع الاقتصادية المتعثرة تعكس الحاجة إلى استثمارات أكبر في البنية التحتية والخدمات العامة لضمان استمرار النمو.
أما من الناحية الخدمية، فالبنية التحتية في الجنوب لا تزال بحاجة إلى تطوير شامل، خصوصًا في قطاعات المياه والكهرباء والنقل العام.
ففي عدن، على سبيل المثال، ما زال انقطاع الكهرباء يشكل جزءًا من حياة المواطنين اليومية، رغم الجهود الحكومية لتحسين الوضع. كما أن هناك حاجة ملحة لتعزيز شبكة الخدمات الصحية والتعليمية لتلبية الطلب المتزايد نتيجة تدفق النازحين من الشمال، بما يحافظ على الاستقرار الاجتماعي ويمنع ظهور فجوات قد تؤثر على الأمن المجتمعي.

الحاجة إلى إصلاحات قضائية ومؤسسية تمثل تحديًا استراتيجيًا، فتعزيز سيادة القانون وتحقيق العدالة الفعلية أمر أساسي للحفاظ على الثقة بين المواطنين والحكومة المحلية. هذا يشمل تطوير النظام القضائي، وتأهيل المحاكم، وتحسين أداء مؤسسات الدولة بما يضمن سرعة الإجراءات وشفافيتها، ويخلق بيئة مؤسساتية قادرة على مواجهة التحديات المستقبلية.

*ما المطلوب لتعزيز النموذج الجنوبي؟*
تعزيز النموذج الجنوبي يتطلب رؤية شاملة تجمع بين الإدارة الرشيدة، القوة الأمنية، والشراكة المجتمعية.

من الناحية الإدارية والعسكرية، يشمل ذلك تمكين المؤسسات المحلية وتزويدها بالموارد اللازمة لتطوير قدراتها، بالإضافة إلى تدريب القوات الأمنية على أحدث الأساليب في حفظ الأمن وحماية المدنيين، مع الحفاظ على كفاءتها واستقلاليتها عن التجاذبات السياسية الداخلية.

الشراكة الدولية تلعب دورًا حاسمًا في دعم الجنوب، سواء في مكافحة الإرهاب، أو نزع الألغام، أو تقديم الدعم الفني والمالي لمشاريع التنمية.


التعاون مع المنظمات الدولية والهيئات الأممية يمكن أن يوفر خبرات متقدمة في الأمن، والإغاثة الإنسانية، وإدارة الأزمات، مما يزيد من قدرة الجنوب على الاستجابة الفاعلة للتحديات الداخلية والخارجية.

تمويل خدمات النازحين يشكل عنصرًا أساسيًا لتعزيز النموذج الجنوبي. توفير التمويل المستدام للمخيمات، والرعاية الصحية، والتعليم، وفرص العمل، يسمح للنازحين بالاندماج في المجتمع دون أن يشكلوا ضغطًا إضافيًا على الموارد المحلية، ويعكس قدرة الإدارة على التكيف مع المتغيرات السكانية.


*الجنوب شريك السلام


يمثل الجنوب اليوم أكثر من مجرد منطقة آمنة وسط نزاع يمني مستمر، بل نموذجًا حيًا يمكن البناء عليه لتحقيق السلام المستدام.
المؤسسات المحلية المتطورة، والقوات الأمنية المنضبطة، والمجتمع المدني الفعال، يشكلون معًا منظومة متكاملة تستطيع مواجهة التحديات الأمنية والاقتصادية والاجتماعية.

دعم هذا النموذج يعزز فرص السلام الشامل في اليمن، ويتيح للمجتمع الدولي العمل مع الجنوب كشريك فاعل في مشاريع التنمية، ومبادرات حفظ الأمن، والحماية الإنسانية. الجنوب بذلك ليس مجرد ملاذ آمن للنازحين، بل منصة حقيقية لإعادة بناء الدولة وتعزيز الحقوق المدنية، وتحويل النزاعات إلى فرص تنموية.

إن الاستثمار في الجنوب وتعزيز استقراره يمثل فرصة استراتيجية لكل الأطراف المحلية والدولية، لأنه يقدم نموذجًا مستدامًا يمكن تكراره وتعميمه على مناطق أخرى، ويثبت أن الاستقرار والأمن وحقوق الإنسان يمكن تحقيقها حتى في بيئات محفوفة بالتحديات، إذا توافرت الإرادة السياسية، والمؤسساتية، والمجتمعية.