الجنوب والإمارات..شراكة على جناح السلام

الرئيس الزُبيدي يؤكد محورية دور دول مجلس التعاون الخليجي في إعادة الاستقرار إلى بلادنا..انفوجراف

الجمعية الوطنية تشيد بتحركات الرئيس الزُبيدي لحشد الدعم لإصلاح مؤسسات الدولة..انفوجراف



اخبار وتقارير

الأحد - 06 يوليو 2025 - الساعة 09:08 م بتوقيت عدن ،،،

4 مايو/ تقرير/ محمد الزبيري


في الثاني والعشرين من مايو عام 1990، شهد اليمن حدثًا تاريخيًا تمثل بإعلان الوحدة بين الجمهورية العربية اليمنية في الشمال، وجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية في الجنوب، في خطوة أثارت آمال اليمنيين بوطنٍ موحّد تسوده العدالة والشراكة المتكافئة. لكن سرعان ما تبيّن أن هذه الوحدة لم تكن سوى فخ سياسي، خطط له نظام صنعاء لاجتياح الجنوب والسيطرة عليه، حيث بدأ الطرف الشمالي مباشرة بعد الوحدة بالتآمر على شركائه الجنوبيين، ومارس سياسة الإقصاء والتهميش، متخليًا عن كل التزاماته في اتفاقيات الوحدة.

بدأت مؤشرات الانقلاب مبكرًا، حين شنّت أطراف في الشمال، وعلى رأسها حزب الإصلاح (الواجهة السياسية للإخوان المسلمين)، حملات تحريض دينية ممنهجة ضد الجنوبيين، وصوّرتهم كـ"ملحدين" و"انفصاليين"، لتبرير استهدافهم. في الوقت نفسه، شهد الجنوب موجة اغتيالات سياسية طالت مئات القادة والضباط والكفاءات الجنوبية خلال أعوام قليلة، دون أي تحقيق أو مساءلة. واستُكملت المؤامرة عبر إقصاء الكوادر الجنوبية من مواقع القرار، وفرض واقع جديد قائم على السيطرة والتهميش.

توالت الخروقات، وبلغت ذروتها بالتنصل الكامل من وثيقة العهد والاتفاق الموقعة في عمّان عام 1994، والتي كانت بمثابة محاولة أخيرة لإنقاذ مشروع الوحدة. لكن صنعاء اختارت الحرب، وأعلنت رسميًا في 27 أبريل 1994 شن عدوان شامل على الجنوب، تمهيدًا لاجتياحه بالقوة.

وفي 7 يوليو 1994، سقطت العاصمة الجنوبية عدن بيد قوات الشمال، بعد أسابيع من القصف العشوائي والمعارك الضارية، لتبدأ مرحلة الاحتلال اليمني للجنوب. لم تكن مجرد سيطرة عسكرية، بل رافقها جرائم وحشية بحق المدنيين، وعمليات نهب ممنهجة طالت البنوك والمؤسسات والمرافق العامة والخاصة، إضافة إلى تدمير ممنهج لمؤسسات الدولة الجنوبية، وطمس كل مقومات الهوية الوطنية الجنوبية .

عقب ذلك، عاش الشعب الجنوبي عقودًا من القهر والتسلط، حيث تعرض الآلاف للتسريح القسري من مؤسسات الدولة، وجرى نهب ثروات الجنوب من نفط وغاز وأراضٍ، وتحول المواطن الجنوبي إلى غريب في وطنه، مجرد من الحقوق، تحت وطأة حكم استبدادي غاشم.

غير أن هذا الظلم لم يدفع الجنوبيين إلى الاستسلام، بل فجّر فيهم روح المقاومة، فكانت انطلاقة الحراك السلمي الجنوبي عام 2007 بمثابة زلزال هزّ أركان نظام الاحتلال، وأعاد بعث القضية الجنوبية إلى الساحة بقوة وسلمية، رغم ما واجهه من قمع ودماء.

ومع اجتياح ميليشيات الحوثي وقوات صالح للجنوب في 2015، انفجرت المقاومة الجنوبية المسلحة، فهبّ أبناء الجنوب للدفاع عن أرضهم وهويتهم، حتى تمكنوا من تحرير عدن وبقية المحافظات الجنوبية، مؤكدين أن الجنوب لا يمكن أن يُحكم بالقوة أو يُدفن قضيته بالتهميش.

*الشراكة المغدورة:كيف خطط الطرف الشمالي لاستهداف الجنوب*

منذ اللحظة الأولى لإعلان الوحدة، بدأ نظام صنعاء بقيادة الرئيس علي عبد الله صالح بالتراجع عمليًا عن كل ما تم الاتفاق عليه، وسعى بوضوح إلى السيطرة على مفاصل الدولة وتهميش الشريك الجنوبي.
كانت نوايا الشماليين واضحة، فقد استخدموا الوحدة كغطاء لضم الجنوب، لا للتوحد معه. ظهرت بوادر التآمر مبكرًا، حين تم تسليم مؤسسات الدولة في صنعاء للعناصر الموالية للنظام الشمالي، وبدأت الكوادر الجنوبية تُستبعد واحدة تلو الأخرى من مفاصل القرار.

ومع مرور الوقت، ارتفعت وتيرة التحريض الممنهج على الجنوب. أطلقت قيادات دينية تابعة لحزب الإصلاح، الواجهة السياسية لجماعة الإخوان المسلمين في اليمن، حملات تكفير وتحريض دينية ضد الجنوبيين، حيث أُشيع أن الجنوب منطقة "إلحاد وشيوعية"، وأن "قتالهم جهاد"، ما مهّد نفسيًا وشرعيًا لدى فئات واسعة في الشمال لتقبل فكرة الحرب والاستيلاء بالقوة على أرض الجنوب.

بالتزامن مع ذلك، بدأت حملة اغتيالات ممنهجة ضد الكوادر الجنوبية، طالت سياسيين وعسكريين وأكاديميين وصحفيين. وبحسب تقارير حقوقية، فإن عدد الاغتيالات المنظمة التي طالت الجنوبيين في تلك الفترة تجاوز 150 عملية اغتيال، نفذها مجهولون لم يُقدَّم أيٌ منهم إلى العدالة. كل ذلك كان يحدث في ظل صمت حكومي مطبق، بل وتواطؤ مكشوف من أجهزة الأمن اليمنية التي كانت تُدار فعليًا من صنعاء.

في مطلع عام 1994، حاول الجنوبيون تجنيب البلاد حربًا شاملة عبر توقيع "وثيقة العهد والاتفاق" في العاصمة الأردنية عمان، والتي نصت على إعادة هيكلة الدولة وتوزيع السلطات بشكل عادل. لكن النظام اليمني تعامل مع الوثيقة كمجرد استراحة تكتيكية، ليكمل بعدها الاستعدادات العسكرية لشن الحرب على الجنوب.

وفي السابع والعشرين من أبريل 1994م، أعلن النظام اليمني الحرب رسميًا على الجنوب. اندفعت القوات الشمالية، مدعومة بالقبائل المسلحة وعناصر دينية متطرفة، نحو حدود الجنوب. كانت جبهات القتال تشتعل في الضالع ويافع ولحج وأبين، بينما الطيران الحربي الشمالي يقصف المواقع العسكرية والمدن الجنوبية بلا رحمة.

لم تمضِ أسابيع حتى أصبحت المعركة في قلب عدن، التي كانت تُقاوم ببسالة رغم ضعف الإمكانات. قصفت الطائرات محطات المياه والكهرباء والمستشفيات، وسقط مئات المدنيين، وتعرضت الأحياء السكنية للقصف العشوائي. كل هذا يحدث أمام صمت دولي مخجل، واكتفاء المجتمع الدولي بإصدار بيانات الدعوة إلى وقف إطلاق النار دون أن تتحرك إرادة حقيقية لمنع سقوط دولة كانت عضوًا في الأمم المتحدة قبل الوحدة.

وفي صباح السابع من يوليو 1994م، سقطت عدن. دخلت قوات الشمال المدينة، ومعها الميليشيات الدينية والمسلحون القبليون، في مشهد يشبه الغزو. لم يكن ما حدث دخول جيش وطني إلى أرض موحدة، بل كان احتلالًا بكل ما تعنيه الكلمة من معنى.

عقب سقوط عدن، بدأ فصل جديد من المعاناة. تم نهب المؤسسات الحكومية، وتفريغ المعسكرات، وسرقة البنوك والمرافق العامة. تحولت مقرات الدولة إلى غنائم حرب. دُمرت الوزارات، وأُحرقت الملفات، ونُهبت محتويات المتاحف والمكتبات. أما الكوادر الجنوبية، فقد تم تسريحها جماعيًا، وأُحيل عشرات الآلاف من العسكريين والمدنيين إلى التقاعد القسري.

على المستوى السياسي، تم تغييب الجنوب تمامًا من المشاركة في صنع القرار. أصبح أبناء الجنوب يُعامَلون كمواطنين من الدرجة الثالثة في وطنهم، بعد أن كانوا شركاء في تأسيس الوحدة. أُقصي المثقفون، وأُغلقت الصحف الجنوبية، وتم تغيير المناهج الدراسية لطمس الهوية الوطنية الجنوبية من عقول الأجيال الجديدة.

لم تتوقف الكارثة هنا، بل تعمّق الجرح مع مرور الوقت. فقد استُبيحت ثروات الجنوب، ونهب النظام ثرواته النفطية والغازية، وحوّلها إلى مراكز القوى في صنعاء، بينما بقي الجنوب يعيش في فقرٍ وحرمان. تحولت عدن – التي كانت ميناءً دوليًا – إلى مدينة مهمشة منهكة الخدمات، وانهارت منظومة التعليم والصحة، وغابت الدولة، وحضر الفساد والاستبداد بكل تجلياته.

*جرائم محفورة في قاع الذاكرة الجنوبية*

لم يمر على إعلان الوحدة اليمنية سوى شهور حتى بدأت مؤشرات الغدر والخيانة بالتكشف وظهرت النوايا الخبيثة لنظام صنعاء ومخططاته القذرة التي استعد لها مسبقاً حيث تم تهميش الكوادر الجنوبية في المؤسسات السيادية منذ الأيام الأولى وبدأ واضحاً أن الرئيس علي عبدالله صالح وأركان نظامه يعملون على إحكام قبضتهم على موسسات الدولة وإقصاء شركاء الوحدة عن مواقع صناعة القرار.

في الجيش أزيح العديد من القادة العسكريون الجنوبيون من مناصبهم وأبعدوا من قيادة الألوية رغم كفاءتهم العالية وتأهيلهم العسكري واستبدلوا بقادة شماليون يفتقدون لأدنى درجات الكفاءة والتأهيل كما دمجت المؤسسات المدنية والعسكرية بشكل غير متوازن، صبّ في مصلحة الطرف الشمالي، وتحولت صنعاء إلى مركز القرار الوحيد، وتم تعطيل معظم المؤسسات الحكومية في الجنوب أو نقلها إلى الشمال
أقصي أكثر من 60% من الوزراء الجنوبيين و80% من القيادات الإدارية خلال أول ثلاث سنوات، فأصبح مجرد مكمّل جغرافي دون أي تأثير سياسي حقيقي خلافاً لكل مواثيق وقوانين الوحدة التي نصت على الشراكة المتساوية بين الطرفين.

*دماء مهدورة وحقوق مسلوبة وفتاوى تبيح إبادة الشعب الجنوبي*

تزامنت عملية الاقصاء وابعاد القادة الجنوبيين من مناصبهم مع حملات التحريض والتكفير الديني من منابر المساجد التي يسيطر عليها حزب الإصلاح.

شهدت تلك الفترة اغتيالات صامتة طالت ناشطين، ضباطًا، وقادة سابقين في دولة الجنوب. كما تم تكميم الأفواه بمنع صدور أي صحيفة تتحدث عن القضية الجنوبية، وأُغلقت الصحف المستقلة، وفُرضت رقابة صارمة على الإعلام.
في الوقت نفسه، أُغلق ملف الاغتيالات التي طالت شخصيات وقيادات جنوبية دون فتح أي تحقيق أو محاسبة

جرى تصوير الجنوبيين على أنهم شيوعيون وكفار يستحقون القتل، وتم إصدار فتاوى دينية تعتبر الحرب عليهم "جهادًا".

توجت هذه الحملة التحريضية بفتوى التكفير التي أطلقها الداعية الإخواني عبد الوهاب الديلمي والتي بثتها وسائل الإعلام الرسمية وأباح فيها قتل الشعب الجنوبي مؤكداً أن الكثير من الكفرة والملحدين يتواجدون بين المواطنين وأن قتلهم أهون من ضياع الإسلام وسقوط الوحدة اليمنية.

كانت تلك الفتاوى تمهيدًا نفسيًا لتبرير الحرب والقتل، ومكّنت النظام من الزج بالآلاف من المسلحين العقائديين في صفوف الجيش القادم لغزو الجنوب ومنهم آلاف من العائدين من أفغانستان أو ما يطلق عليهم (الأفغان العرب)

في 27 أبريل 1994، أعلن النظام اليمني الحرب رسميًا على الجنوب وانطلق الغزو البربري بقصف جوي ومدفعي عنيف للمناطق الجنوبية المأهولة بالسكان من شبوة إلى الضالع وعدن ثم الزحف البري بمئات الآلاف من الجيش والقوى الدينية ومليشيات القبائل المتعطشين للسلب والنهب والإرهابيين العائدين من أفغانستان واستمرت الحرب حتى 7 يوليو 1994.

سقطت عدن بعد 65 يومًا من القتال والقصف العشوائي الذي طال الأحياء السكنية والمستشفيات والبنية التحتية.
ووفقًا لتقارير هيومن رايتس ووتش، فإن عدد القتلى المدنيين في عدن فقط تجاوز 5000 قتيل، وأكثر من 10,0000 نازح.

تم قصف خزانات المياه ومحطات الكهرباء، وانتشر الجفاف، وانهارت الخدمات العامة، فيما عمّت الفوضى عمليات النهب التي قامت بها وحدات عسكرية ومليشيات قبلية حتى البنك المركزي في عدن، مقارّ الوزارات، المؤسسات الإعلامية، المتاحف والمكتبات، نُهبت بشكل منظم.

بعد الحرب، بدأ فصل جديد من الإجرام عبر التصفية الإدارية والتقاعد الإجباري لكل الكفاءات الجنوبية وتم إحالة أكثر من 100 ألف موظف جنوبي للتقاعد القسري دون مستحقات وتسريح أكثر من 70 ألف ضابط وجندي من جيش الجنوب السابق.

فرض الاحتلال قيادات شمالية على جميع المرافق الحكومية الجنوبية،وغيب بشكل ممنهج كل الكوادر الجنوبية المؤهلة وأصبح الغزاة اليمنيين يتحكمون بكل شيء في الجنوب ويمارسون أبشع جرائم الفساد والنهب بدون أن يردعهم أي قانون.
أصبح الجنوب بمثابة "مستعمرة داخل الدولة"، تُنهب ثرواته، ويُهمّش أهله، ويُقصى أبناؤه عن المناصب، بينما تصدّر أبناء الشمال كل مفاصل السلطة والثروة حيث نهبت أراضي ومؤسسات الجنوب وتم توزيعها كمكافآت للقيادات الشمالية العسكرية والسياسية وشيوخ القبائل وقادة القوى الدينية بل إن الموارد السيادية للدولة كالموانىء وحقول النفط والمصانع لم تسلم فتم توزيعها وتقاسمها بين شركاء الاحتلال وتجار الحرب.

جرى نهب منظم لثروات الجنوب النفطية والغازية من شبوة وحضرموت، وتحويل إيراداتها إلى صنعاء.
ورغم أن أكثر من 80% من إنتاج النفط اليمني كان من الجنوب، إلا أن محافظاته كانت تعيش في فقر مدقع، مع تردّي الخدمات الصحية والتعليمية، وانعدام مشاريع التنمية.
ميناء عدن، الذي كان من بين أهم الموانئ في العالم، جرى تهميشه عمدًا، وتوقيع اتفاقات مدمرة لإفراغه من دوره لصالح موانئ أخرى يديرها مقربون من النظام

*طمس الهوية الجنوبية وتدمير التاريخ*

منذ اجتياحه للجنوب في صيف 1994، لم يكتفِ نظام الاحتلال اليمني بإسقاط العاصمة عدن والسيطرة العسكرية على الأرض، بل شرع فورًا في تنفيذ مخطط أعمق وأخطر، هدفه الحقيقي لم يكن فقط إخضاع الجنوب سياسيًا، بل اقتلاع جذوره، ومحو هويته، وطمس كل ما يرمز إلى تاريخه المستقل، ودولته التي سبقت في التنظيم والتقدم.

في لحظة الاجتياح، بدأ استهداف ممنهج لمؤسسات الدولة الجنوبية، فتم تفكيك الوزارات، ونهب الوثائق والسجلات الرسمية، وإحراق محتويات الأرشيف الوطني، وتفريغ الإدارات من الكوادر الجنوبية المؤهلة. كثير من قادة ومهندسي النظام الجنوبي أُبعدوا قسرًا، وأُحيلوا إلى التقاعد أو السجن أو التصفية، في حين جرى إحلال عناصر من الشمال لا تمتلك أدنى مؤهلات القيادة أو الكفاءة، سوى الولاء لنظام صنعاء.

لم يتوقف الاستهداف عند حدود مؤسسات الدولة، بل امتد إلى كل ما يُعبّر عن الكيان الجنوبي. جرى إلغاء أسماء الشهداء والقادة الجنوبيين من الشوارع والساحات، وتغيير أسماء المدارس والمعسكرات، حتى يتم نزع ذاكرة الجنوب من جذورها. مكتبات عدن جُرّدت من كتبها، والإعلام الرسمي حُوِّل إلى بوق لترويج فكر الهيمنة، فيما حُظرت كل الأصوات التي تدافع عن الهوية الجنوبية، وتم مطاردة الصحفيين والناشطين وإسكاتهم بالقوة.

أما المعالم الأثرية والتاريخية التي شكّلت شواهد على تاريخ الجنوب وحضارته، فقد تعرّضت للإهمال والتخريب المتعمّد. العديد من القلاع والحصون والمواقع التاريخية، مثل حصون لحج، ومتاحف عدن، وأبواب شبام القديمة، جرى إهمالها عمدًا أو العبث بمحتوياتها أو استخدامها لأغراض عسكرية. حتى النُّصب التذكارية التي تمثّل نضال الجنوب، تم تحطيمها أو استبدالها، ضمن حملة ممنهجة لمحو الذاكرة الجمعية.

المشهد الثقافي لم يكن بمنأى عن الاستهداف، فتم تهميش المثقفين الجنوبيين، وإغلاق المسارح والمراكز الثقافية، وطمس الفنون والتراث الجنوبي الذي ظل لعقود عنوانًا للتنوير والتقدم. حُوصرت الأغنية الجنوبية، وتم التضييق على كل ما يعكس روح الجنوب وتنوعه وهويته الوطنية.

وكلما ارتفع صوت جنوبي يطالب بإعادة الاعتبار لتاريخ الجنوب وخصوصيته، كان الرد الأمني جاهزًا: قمع، اعتقال، مداهمات، وتشويه إعلامي ممنهج. وحتى المقرات القديمة للدولة الجنوبية السابقة، جرى الاستيلاء عليها وتحويلها إلى مراكز تابعة لنظام صنعاء أو تركها مهجورة، لتنهار أمام مرأى الجميع كرمز لانهيار الكيان.

ورغم كل تلك المحاولات المحمومة، لم ينجح الاحتلال في محو هوية الجنوب. لقد قاومها الشعب عبر الذاكرة الشعبية، وعبر الجدران التي خطّت شعارات الاستقلال، وعبر الأمهات اللاتي روين لأطفالهن حكاية الدولة المغدورة، وعبر الحراك الجنوبي الذي فجّر في عام 2007 انتفاضة الهوية، رافعًا راية الاستقلال في وجه كل محاولات الطمس والتشويه.

لقد أراد الاحتلال أن يجعل الجنوب مجرّد "إقليم تابع" بلا ملامح، فصمد الجنوب وأثبت أنه "وطن كامل" لا يُمحى بتغيير أسماء، ولا تُنسى هويته بتدمير آثار، ولا تُلغى دولته بمجرد اجتياح. فالتاريخ حيّ في القلوب، والمعالم ستُرمم، والدولة ستُبعث من بين الركام، لأن الشعوب لا تموت، والهوية لا تُغتال، مهما طال ليل الاحتلال.

*وحدة بلا جذور ..كيف انهارت قبل أن تقف على أقدامها؟*

وُقِّعت اتفاقية إعلان الوحدة بين جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية في الجنوب، والجمهورية العربية اليمنية في الشمال، في لحظة بدت لكثيرين واعدة بتحقيق حلم طالما راود اليمنيين، خاصة في ظل ما مثّله الحدث من نهاية لحقبة الانقسام السياسي بين النظامين المختلفين أيديولوجيًا.
غير أن تلك اللحظة التي هلّل لها الإعلام الرسمي آنذاك، سرعان ما تحوّلت إلى نقطة انطلاق لسلسلة من الأزمات، انتهت بتفجر الحرب الأهلية في صيف 1994، وما تلاها من عقود من الصراع، دفعت الكثيرين إلى وصف الوحدة بالفاشلة، واعتبارها احتلالًا فرضه الشمال بالقوة على الجنوب.

فشل الوحدة لم يكن وليد لحظة واحدة، بل نتاج تراكمات سياسية واقتصادية وأمنية وثقافية، بدأت منذ الأيام الأولى لإعلان الوحدة، حين اصطدمت آمال التوحيد بنزعة التفرد والاستحواذ التي أظهرها نظام صنعاء، وسعيه لفرض نموذج الدولة المركزية على حساب التفاهم والتقاسم الحقيقي للسلطة والثروة. فعلى الرغم من أن اتفاقية الوحدة نصّت على فترة انتقالية يتم خلالها إعداد دستور دائم، وتقاسم المناصب بين الطرفين، إلا أن ما حدث على أرض الواقع كان مختلفًا، حيث جرى تهميش القيادات الجنوبية، والتعامل مع المؤسسات الجنوبية كغنائم، ما أدى إلى تعميق الشعور بالخذلان لدى الجنوبيين.

في السنوات الأولى بعد إعلان الوحدة، شهد الجنوب حملة منظمة لتصفية الكوادر العسكرية والأمنية والإدارية التي كانت تنتمي للنظام الجنوبي السابق، إما بالتقاعد القسري، أو الإقصاء، أو حتى الاغتيال. وترافقت هذه الحملة مع سياسات ممنهجة لتجريف الاقتصاد الجنوبي، من خلال خصخصة مؤسسات الدولة وبيعها لرجال أعمال مرتبطين بنظام صنعاء، ونهب الأراضي الحكومية والخاصة، خاصة في عدن وحضرموت ولحج وأبين. ولم تقف هذه الممارسات عند حدود الاقتصاد والإدارة، بل تعدّتها إلى العبث بالهوية الثقافية والتعليمية والإعلامية للجنوب، عبر فرض المناهج الموحدة، وتهميش التاريخ الجنوبي، وتغييب الرموز الوطنية الجنوبية من الذاكرة الجمعية.

سياسيًا، لم تدم تجربة التعددية الحزبية طويلاً، إذ سرعان ما تحوّلت الحياة السياسية إلى ساحة صراع دموي، خاصة بعد أحداث 1993، التي عكست عمق الخلاف بين الشريكين في الوحدة، وتجلّت بشكل واضح في ما عُرف بأزمة "وثيقة العهد والاتفاق" التي وقّعت في الأردن مطلع 1994، كحل توافقي لتجنب الحرب. غير أن تلك الوثيقة لم تُنفذ، وبدلاً من تطبيق بنودها، بدأ نظام صنعاء بالتحضير عسكريًا لاجتياح الجنوب، وهو ما تحقق بالفعل بعد أشهر قليلة من توقيع الوثيقة، عندما اندلعت الحرب في مايو 1994، وانتهت في السابع من يوليو من العام نفسه بسقوط الجنوب بيد قوات الشمال.

منذ ذلك التاريخ، لم تعد الوحدة مشروعًا وطنيًا جامعًا، بل أصبحت في نظر معظم الجنوبيين احتلالًا عسكريًا فرض بقوة السلاح، وتحوّلت المدن الجنوبية إلى مناطق ملحقة إداريًا واقتصاديًا بصنعاء، في حين جرى تهميش أبنائها، ونهب مواردهم، وتمكين قوى النفوذ من بسط سيطرتها على الأرض والثروة. وبمرور الوقت، تصاعدت الدعوات المطالبة بفك الارتباط، لتتحوّل إلى حراك شعبي واسع انطلق عام 2007، قاده متقاعدون جنوبيون ومسؤولون سابقون، قبل أن يتوسع ويشمل كافة شرائح المجتمع، وينادي باستعادة الدولة الجنوبية المستقلة.

الأحداث التي تلت العام 2011، وما شهدته من انتفاضات سياسية، ثم الحرب التي اندلعت عام 2015، شكّلت نقطة تحول مفصلية في مسار القضية الجنوبية، إذ أدى الانهيار الكامل لمؤسسات الدولة في صنعاء، وسيطرة الميليشيات الحوثية على شمال اليمن، إلى إنهاء ما تبقّى من صلة حقيقية بين الجنوب والشمال، ووجد الجنوبيون أنفسهم في مواجهة تحديات جديدة دفعتهم إلى إعادة تنظيم صفوفهم، عبر تشكيل المجلس الانتقالي الجنوبي، ككيان سياسي يمثل تطلعاتهم، ويعمل على استعادة الدولة الجنوبية.

إن فشل الوحدة اليمنية لم يكن حتمية تاريخية، بل نتيجة حتمية لسلوك سياسي عدواني تبناه نظام صنعاء منذ اللحظة الأولى، سلوك قائم على النهب والإقصاء، لا على الشراكة والعدالة. واليوم، وبعد أكثر من ثلاثة عقود على إعلان الوحدة، ومرور أكثر من عقد على اندلاع ثورة الجنوب، تتكرّس القناعة لدى الجنوبيين بأن الوحدة فشلت لأنها وُلدت من دون أسس صحيحة، وتمّت إدارتها بعقلية استعلائية، تجاهلت حقوق الجنوب وتضحيات أبنائه، وانتهت إلى ما انتهت إليه: صراع مفتوح، وشعب يسعى لاستعادة دولته من تحت ركام "وحدة" لم تأتِ له بشيء سوى الحرب والدمار.

*من تحت الركام الجنوب ينتفض*

في واحدة من أكثر الملاحم النضالية تعقيدًا وطولًا في تاريخ اليمن المعاصر، استطاع الشعب الجنوبي أن يشق طريقه نحو التحرر، متحديًا القبضة الحديدية لقوى الاحتلال اليمني التي فرضت سيطرتها على الجنوب بقوة السلاح منذ صيف 1994م، عقب حرب شنتها صنعاء لإجهاض حلم الجنوبيين في استعادة دولتهم، ولتحويل الوحدة من شراكة إلى غلبة، ومن اتفاق سياسي إلى سيطرة عسكرية شاملة.

منذ الأيام الأولى لسقوط الجنوب، لم تنطفئ جذوة المقاومة في قلوب أبنائه، وإن بدت تلك المرحلة قاتمة ومحاطة بجدران الخوف والملاحقة والإقصاء. فالأجهزة الأمنية التي تمددت في كل زاوية، والقوى القبلية والعسكرية التي استباحت مؤسسات الدولة وأراضي المواطنين، خلقت واقعًا خانقًا، أرادت من خلاله قوى الشمال إخماد أي صوت جنوبي يطالب بالكرامة أو الهوية أو الحقوق. لكن الشعب الجنوبي، وعلى الرغم من محاولات الإذلال والإفقار، بدأ منذ وقت مبكر في بناء وعي جديد يرفض الاحتلال، ويؤمن بحتمية الخلاص.

كانت انتفاضة المتقاعدين العسكريين الجنوبيين عام 2007م شرارة الحراك الجنوبي السلمي، حيث خرج آلاف الجنود والضباط المسرحين قسرًا إلى الساحات العامة، مطالبين بإنصافهم ورفع الظلم عنهم. وسرعان ما تحولت تلك الوقفات الحقوقية إلى مظاهرات جماهيرية كبرى ترفع شعار استعادة الدولة الجنوبية. ومع اتساع رقعة الغضب الشعبي، واجهت سلطات الاحتلال هذه التحركات بالقمع والرصاص، وسقط العشرات من الشهداء في ردفان والضالع وعدن وحضرموت ولحج وأبين، لكن دماءهم لم تذهب سدى، بل عمّقت روح المقاومة، وأسست لحراك سياسي شعبي واسع، غيّر موازين المعادلة القائمة.

رغم افتقار الحراك الجنوبي في بداياته للغطاء الإقليمي والدولي، إلا أن صموده وتوسّعه منح القضية الجنوبية شرعية شعبية صلبة، وفرضها على طاولة النقاش المحلي والدولي، خصوصًا بعد أن بات واضحًا أن ما جرى في 1994 لم يكن وحدةً، بل اجتياحًا بالقوة. وتوالت بعد ذلك مراحل النضال السلمي، من الاحتجاجات المدنية والعصيان المدني، إلى الفعاليات المركزية الكبرى التي كانت بمثابة استفتاء شعبي متكرر على خيار استعادة الدولة.

في عام 2015، شكّلت الحرب التي شنتها ميليشيا الحوثي على الجنوب نقطة تحول مفصلية. فرغم أن الجنوب كان لا يزال يئن تحت ثقل الاحتلال اليمني بكل فصائله، إلا أن أبناءه سرعان ما توحدوا تحت راية الدفاع عن أرضهم، فهبّ الشباب الجنوبيون من مختلف المحافظات، وشكّلوا مقاومة شعبية خاضت معارك شرسة ضد الغزو الحوثي، وسط تواطؤ واضح من قوى النفوذ الشمالي التي لم تدافع عن الجنوب، بل سهّلت إسقاطه من جديد.

لكن المعركة كانت هذه المرة مختلفة. فقد امتلك الجنوبيون إرادة حديدية، وتجربة نضالية، وأرضًا يعرفونها شبرًا شبرًا، وعقيدة وطنية لا يمكن كسرها. وبمساندة من التحالف العربي بقيادة المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة، تمكنت المقاومة الجنوبية من دحر الميليشيات الحوثية من عدن، ثم من لحج وأبين والضالع وأجزاء من شبوة، في معركة تحرر وطني أعادت رسم الجغرافيا والسيادة.

وبعد الانتصار العسكري، بدأ الجنوب مرحلة جديدة في معركته السياسية، فتم تأسيس المجلس الانتقالي الجنوبي في مايو 2017م، ككيان سياسي يمثل تطلعات الجنوبيين ويقود مشروع استعادة الدولة. ولم يكن تشكيل المجلس إلا تتويجًا لنضالات طويلة، وتعبيرًا عن نضج سياسي شعبي، استطاع أن يترجم الدماء التي سالت إلى مشروع وطني منظم، يمتلك مؤسسات وهيئات، ويتحدث باسم الجنوب في المحافل الإقليمية والدولية.

لم يكن طريق التحرير سهلًا، ولم يكن خاليًا من التضحيات. فقد واجه الجنوبيون محاولات خبيثة لإعادة إخضاعهم تحت يافطات الشرعية الزائفة، وتعرضوا لحملات تشويه، وتآمرت عليهم أطراف داخلية وخارجية، لكنهم ظلوا صامدين، متمسكين بحقهم في الحرية، ومؤمنين بأن الجنوب ليس تابعًا لأحد، ولا يقبل بالاحتلال أو الاستلاب.

لقد استعاد الشعب الجنوبي حريته لأنه لم ينسَ قضيته، ولم يساوم على كرامته، ولأن كل جيل تسلّم راية النضال من الجيل الذي قبله، مؤمنًا أن الكفاح من أجل الوطن لا يخبو، وأن إرادة الشعوب لا تُكسر مهما بلغت قوة المحتل. واليوم، وبعد سنوات من المقاومة، يقف الجنوب في موقع متقدم، يستعيد قراره، ويفرض وجوده، ويسير بخطى ثابتة نحو الهدف الأسمى: استعادة الدولة الجنوبية المستقلة على كامل حدودها المعروفة قبل 22 مايو 1990م.

*الجنوب المحرر سياسياً: مثقل بإرث الاحتلال*

لم تكن حرب صيف 1994 مجرد حدث عسكري عابر في الوجدان الجنوبي، بل كانت الشرارة التي فجّرت جراحًا ما تزال تنزف حتى اليوم، وفتحت صفحة سوداء في تاريخ الجنوب المعاصر، عنوانها الاحتلال، ومتنها القمع، وتفاصيلها سلسلة طويلة من الجرائم والانتهاكات التي لا تسقط بالتقادم. ومنذ أن اجتاحت قوات صنعاء العاصمة عدن وسائر المحافظات الجنوبية، بدأت آلة القمع تمارس عملها بدم بارد، ظنّ المحتل أن الزمن كفيل بمحو آثارها، لكنه تجاهل أن ذاكرة الشعوب لا تموت، وأن الجنوب تحديدًا، لا ينسى.

الذاكرة الجنوبية ما تزال تحمل صورًا دامغة لما جرى عقب اجتياح الجنوب. ففي عدن، التي كانت درّة التاج، تحوّلت مؤسساتها ومرافقها إلى ثكنات عسكرية، ونهبت محتويات الوزارات، ودُمّرت المعالم الثقافية، وأُقصيت الكوادر المؤهلة، وتم استبدالها بعناصر لا تمتلك من الكفاءة شيئًا سوى ولائها لصنعاء. أما في المعسكرات، فقد طالت التصفيات الميدانية ضباطًا جنوبيين خدموا الدولة بصدق، لكنهم واجهوا الرصاص والغدر لمجرد أنهم جنوبيون.

الجرائم لم تقتصر على النخب والمؤسسات، بل وصلت إلى عامة الناس. فآلاف الأسر الجنوبية عانت من التهجير القسري، ومصادرة الأراضي، والاستيلاء على الممتلكات الخاصة، خاصة في عدن ولحج وأبين. وامتلأت السجون السرية بأحرار الجنوب، وفتحت أجهزة الأمن السياسي والاستخبارات أبوابها لملاحقة كل صوت حر، وكل ناشط يرفع شعار الكرامة أو الاستقلال. كانت تلك السنوات، التي تلت الاجتياح، سنوات قهر ممنهج لا يختلف في فظاعته عن أي احتلال أجنبي عرفه التاريخ.

ومع انطلاق الحراك الجنوبي في 2007، دخلت الذاكرة الجنوبية طورًا جديدًا من التوثيق الشعبي، حيث بدأت الأمهات ترفع صور أبنائهن الشهداء في الساحات، واستعاد الناس أسماء المغدورين، ورووا حكايات الضحايا، وجعلوا من كل فعالية من فعاليات الحراك مناسبة لتجديد العهد بعدم النسيان. كانت ميادين النضال تزدان بصور الشهداء، ولافتات تطالب بمحاكمة من تسببوا في القتل والسحل والمداهمات الليلية، وتدين من أرادوا إذلال الجنوب وتحويله إلى هامش على خريطة لا تمثله

لم تنس الذاكرة الجنوبية المجازر التي ارتكبتها قوى الاحتلال في الضالع وردفان والمعلا والمنصورة والمكلا. لم تنسَ جنائز الشهداء التي خرجت تحت نيران القناصة، ولم تنسَ المعتقلين الذين قضوا تحت التعذيب، ولم تنسَ الدماء التي سُفكت لمجرد أن أصحابها نادوا بحق تقرير المصير. ولم تنسَ الجنوب أراضيه المنهوبة، ولا مصفاة عدن التي شُلّت، ولا ميناءها الذي تم تجفيفه عمد