* حركة عمالية رائدة سلبت حقوقهاأيادٍ عابثة وأقصت جهود عشرات السنين
* "المصانع" شواهد بارزةعلى الفساد الرسمي الذي طال البنية التحتية لعدن والجنوب
* مؤسسات عامة مغدور بها وطاقة بشرية تم ترحيلها للمنازل
* عبث ممنهج قاده تجار يمنيون برعاية رسمية من النظام الحاكم
عدن مدينة الحياة والعمل، لا وقت للفراغ عند أبنائها، لا بطالة، لا بؤس لا قلق.. هكذا يتحدث أبناؤها الذين عاشوا مرحلة ذهبية من تاريخ عدن..
ثم صارت تلك المدينة المفعمة بالحيوية مزاراً لأطلال منشآت عمالية كان لها الريادة في شتى المجالات بعد أن طالها التدميرالممنهج الذي قضى على العمل والعامل وأقصى جهود عشرات السنين.. في سلسلة ملف "اغتيال عدن" نستعرض هنا قطرة من بحر الأسى الذي تركته أيادي العابثين في المؤسسات والمصانع التي كانت تشكل روح الحياة العمالية في عدن.
ريادة مصنع الغزل والنسيج
مصنع الغزل والنسيج الذي تأسس عام 1971م ويقع في منصورة عدن على مساحة تقدر بـ(84,000 مترمربع) ، يمثل شاهداً بارزاً على الفساد الرسمي الذي طال البنية التحتية للجنوب، وبالذات المصانع، وهي أكثر من (20) مصنعاً جميعها كانت ناجحة في إنتاجها الذي كان يفي بتغطية احتياجات السوق المحلية ، والبعض الآخر منها كان يتم تصدير منتجاته إلى بعض الدول المجاورة.
كان مصنع الغزل يعد ثاني أهم وأكبر منشأة اقتصادية في الجنوب بعد مصافي عدن، عاش عماله تاريخاً حافلاً بالمنجزات، ولمصنع الغزل والنسيج ريادة في الحركة التنموية المبكرة، وأمجاد يتذكرها العاملون والعاملات بألم ، ويأملون بعودتها لجيل جنوبي يبني ولا يهدم.
كان هنا مصنع !
بأسى باحت به تعابير وجهه ، تحدث العم / عثمان ثابت – عامل في المصنع منذ 1972م - فقال: (كنت مشرفاً فنياً في المصنع وعضو مجلس عمالي ، قضيت مع زملائي أياماً لا تنسى فيمصنع الغزل والنسيج ، ذلك المصنع الذي كنا نفخر أننا نلبس من منتوجاته ) .
ويردف: (حرمونا من كل حقوقنا عندما أحالونا للتقاعد الإجباري والآن رواتبنا لا تتعدى الـ" 40 ألف ريال يمني " في حين خدمة معظم العمال قد تجاوزت الـ "35 سنة").
يشاطره الأسى زميله / محمد قاسم بجاش ، فقال: (بعد افتتاح المصنع كانت رواتبنا تقريبا "280شلن"، كان ذلك المبلغ كافيا للمعيشة والادخار ، وكنا نشعر بقيمة الجهد الذي نبذله، وحين ضعف المصنع وبذلنا جهوداً مضاعفة جردونا من حقوقنا، فهناك أكثر من "500"عامل وعاملة تعرضوا للاضطهاد، وظلوا يعلنون الإضراب احتجاجا على ما وصل إليه وضع مصنعهم لكن لا فائدة، فوصلنا إلى ما وصلنا إليه الآن).
وتقول "آسيا" ، رئيسة قسم الأرشيف في المصنع : ( المصنع مر بمراحل كثيرة وصعوبات عديدة ، ورغم العمر الطويل للمصنع إلا أنه لم يتم تحديثه خلال الفترة الزمنية الماضية حتى وصل به الحال حاليا إلى التوقف النهائي للمصنع وتسريحٍ للقوى العاملة ونهب مديونيته .. نشعر بالأسى والألم لهذا الوضع ).
تعود"ملاك" للحديث قائلة: (لكننا لن نيأس طالما وعاصمتنا عدن قد تحررت من الغزاة الطامعين، سنطرق كل الأبواب للمطالبة بعودة مصنعنا، ونطالب بتطبيق نظام الإحلال بأنيتم توظيف شباب من أبناء العمال والعاملات من الجيل الجنوبي الجديد نظراً لخصوصية هذاالمصنع الذي بُني بجهود عماله المخلصين).
حنين وأنين
(كانت منتوجاتنا قطن صافي 100% ، كنا فعلاً نلبس مما نصنع ) تقول "حمامة غالب"– عاملة إنتاج – وتضيف :(كانت منتوجات المصنع تغطي كل المحافظات المجاورة ).
(وكنا فاتحين بيوت من رواتبنا في المصنع ) .. تشاركها الحديث فطوم عبد الله، وتروي قصتها مع المصنع قائلة : (كانت الإرادة سلاحنا والتحقنا بالعمل في المصنع وظروفنا المعيشية صعبة ، وكان المصنع بيتنا الذي نحرص على تطويره ويحرص على سلامتنا، فكان هناك فحص دوري للعمال وتزويدنا بالحليب في كل نوبة من نوبات العمل، والآن المصنع خاوٍ على عروشه.. تصدقي أبكي حين أمر من جانبه ..).
وتتساءل ذكرى : (متى تعود أمجاد مصنعنا ؟! ).
لا للخصخصة
تقول افراح عبد الله – شعبة الاستعداد : (خلال السنوات الفائتة ظل مصنع الغزل والنسيج بعدن يسرق وينهب بعلم الجميع ، وتعرض للحريق أيضا، والمصنعلم يخصخص ولذلك من حقنا المطالبة بإعادة تشغيله ).
وأردفت:(في 2011م أدلى وزير التجارة والصناعة حينها بتصريح لوسائل الإعلام أكد فيه أن الحكومة لن تبيع المصنع ولن تعرضه للخصخصة وأنه تم تخصيص (60) مليون ريال لتحديثه ! .. فأين تلك الملايين؟! ).
المقهورون .. البؤساء
تختصرالخالة فطوم - إحدى العاملات – معاناتها قائلة: ( يا بنتي نحن مقهورون والله، المصنع هذا كان فخراً للعمال والدولة ).
"هناء عبده" توضح أن إحالتهم للتقاعد كانت برواتب حقيرة – كما تصفها- وتقول: (العمال والعاملات بذلوا جهوداً جبارة من أجل المصنع الذي كان ينفق على كثير من الأسر الفقيرة، ليس هذا فقط بل كنا نحب العمل من أجل العمل ذاته ونعمل بإخلاص وتفانٍ ).
طاقة بشرية مهدورة
كانت مدينة عدن تحتضن معظم المصانع الإنتاجية والمؤسسات الاقتصادية التابعة للقطاعين العام والخاص، ولم يكن في الحسبان- وفق ما يعتبر أبناء الجنوب - أن مؤسساتهم ومصانعهم ستكون عرضة للتفكيك والزوال بعد انتهاء حرب صيف 94، وتحول مشروع الوحدة الطوعية إلى وحدة بالإكراه كما يقولون.
وتكشف الأرقام عن أن إجمالي الطاقة البشرية الجنوبية التي سرّحت من أعمالها بعد إغلاق أبوابهذه المصانع والمؤسسات العامة والخاصة أو خضعت لقانون التقاعد الإجباري يقدّر بأكثرمن 467,649 عاملا من أصل 604,200 عامل وموظّف معظمهم من الكوادر المؤهّلة علمياً وثقافياً في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية.
خصخصة ونهب وتدمير
خضعت المصانع في عدن للخصخصة ونهب معداتها وآلاتها، وتم الاستيلاء على مبانيها، وتضمن العبث بها تجاوزات لمصلحة تجّار يمنيين تضرّروا من نشاط هذه المصانع ونجاحها، وسهّلت حرب صيف 94م عملية تمرير هذه المخطّطات، لأن الغطاء القانوني لإتمام عملية التصفية، ممثّلاً بقانون الخصخصة، لم يكن سارياً قبل تلك الفترة.
وعملت جحافل التدمير الممنهج على طرد العاملات وهن كثيرات ممن اتجهن للعمل في المصانع منذ تأسيسها في عدن العاصمة, وعملت تلك الجحافل على إقصائهن في المنازل دون أدنى تعويض يذكر حتى اليوم, ونهب المكائن والآلات والاستيلاء على المباني.
ممالك ضائعة
وتذكرالإحصائيات أن أهم المصانع المزدهرة في فترة أمجاد عدن كانت كالآتي:
-مصنع الأحذية الجلدية.
-مصنع (الشهداء) للملابس.
-مصنع وتعاونية الصناعات الجلدية.
-مصنع البطاريات خور مكسر.
-مصنع الرصاص.
-مصنع الدباغة الوطني .
-مصنع العطور الوطني.
-مصنع الطلاء والأملشن.
-مصنع المطاط.
-مصنع الألمنيوم.
-مصنع عدن لصناعة المشروبات.
-مصنع الإسفنج والأثاث المعدني.
-مصنع الكبريت.
-مصنع السجائر والتبغ الوطني.
-المخبز الشعبي.
-مصنع الزيوت النباتية.
-مصنع الثورة للمنتجات الحديدية.
- مصنعالأدوات الزراعية.
-مصنع أوسان للبسكويت.
-مصنع المشروبات الغازية.
- مصنعالأدوات الزراعية بخور مكسر.
-مصنع الحديد والصلب بجزيرة العمال.
-مصنع الأدوات والقواطع الكهربائية بالمعلا.
-مصنع البسكويت والأغذية الوطنية بالمنصورة.
مؤسسات مغدور بها
تتحدث دراسات أعدّتها شخصيات أكاديمية ونشطاء عن حوالى 46 مؤسسة ومنشأة حكومية (قطاععام) تم الاستيلاء عليها بالقوة من قيادات موالية لشريك الوحدة، من بينها مؤسسة النقد (الدينار) ، وطيران اليمن الديمقراطي (اليمدا) ، والنقل البرّي ، والجمعيات الزراعية ، والجمعيات السمكية.
وهذه المؤسسات متنوعة الخدمة تم تسريح عمالها وموظفيها ، ونُهِبت أصولها النقدية المتحركة، وتوقف دخل الأسر الجنوبية التي كانت تعتمد اعتماداً كلياً على رواتبها من تلك المؤسسات، وتضرر قطاع العمل، وأصبحت عدن مدينة تتكدس فيها مخرجات التعليم الجامعي والبطالة، فلا مجالات عمل تستوعب الشباب، ولا حقوق عادت لأصحابها الذين تم إقصاؤهم بالعمالة الفائضة والتحايل على حقوقهم المشروعة.
ولم يقف العمال المتضررون صامتون تجاه الظلم الذي لحق بهم؛ بل ظلت أصواتهم ترتفع وتنادي كلما أتيحت لها الفرصة لذلك، لكن لم تجد تلك الأصوات أدنى اهتمام، وتعمدت جحافل التدمير الممنهج على تهميش كل صوت يدعو إلى إعادة الحق لأصحابه.
حملة " أعيدوها "
وكانت مؤسستا "جدارية" و"رسيل" قد نفذتا في فترة سابقة حملة طوعية للتضامن مع عمال المصانع، وشملت تلك الحملة العديد من الوقفات الاحتجاجية والبيانات المطالبة بتمكين العمال من استعادة حقوقهم المسلوبة، كما أُقيم معرض لنماذج من منتجات المصانع والمؤسسات المغدور بها.
ومازال العمال والعاملات يأملون بعودة الحق، ويقفون على أطلال الممالك العمالية التي ازدهرت بها حياتهم في مدينتهم الجميلة "عدن".