الأربعاء - 30 يوليو 2025 - الساعة 10:00 م
شكلت التظاهرات الشعبية في الجنوب علامة فارقة في مسار النضال الوطني، ومظهراً حضارياً للتعبير السلمي عن إرادة شعب يتوق إلى استعادة دولته وهويته. لقد عبرت هذه التظاهرات عن حجم التفاعل الشعبي مع المشروع الوطني الجنوبي، وأسهمت في تعزيز حضور القضية الجنوبية على المستويين الإقليمي والدولي، باعتبارها قضية شعب يسلك درب الحرية بإرادة سلمية ومسؤولة.
لكن، ومع تراكم التجربة، بات من الضروري إعادة تقييم أدوات التعبير الشعبي، وفي مقدمتها التظاهرات، ليس من باب النفي أو التشكيك، بل بهدف تعزيز فاعليتها وضمان انسجامها مع متطلبات المرحلة. فليست كل تظاهرة دليل وعي، ولا كل حشد انتصار، إذا لم يكن منظمًا وموجهاً نحو غاية سياسية واضحة.
لقد أفرزت بعض المشاهد في الفترات الماضية ميلًا إلى العشوائية، أو ما يمكن وصفه بالانفعال الجمعي غير المنضبط، ما جعل التظاهرات أحياناً تنحرف عن طابعها السلمي وتتحول إلى مساحات ارتجال، تستهلك فيها الطاقة ولا تبنى فيها النتائج. وهذا الانحراف، وإن كان محدوداً، يحمل في طياته خطورة كبيرة إذا ما ترك دون مراجعة.
وفي هذا السياق، لا يمكن فصل التظاهرات الشعبية عن الواقع المعيشي الصعب الذي يعيشه المواطنون، حيث تحولت الشعارات من مطالب سياسية إلى صرخات يومية للحصول على أبسط الحقوق من خدمات وكهرباء ورواتب وأمن معيشي. وما تشهده محافظة حضرموت اليوم من احتجاجات غاضبة ما هو إلا تجسيد حي لحجم التدهور الخدمي والاقتصادي، الذي بات يهدد السلم الاجتماعي ويكشف هشاشة البنية الإدارية القائمة. إن هذا الواقع يؤكد أن التظاهر لم يعد خياراً سياسياً فقط، بل ضرورة مطلبية تمليها ظروف الناس القاسية.
من هنا، تصبح سلمية التظاهر مسؤولية جماعية، وتحويله إلى فعل سياسي واجتماعي منظم ضرورة وطنية. فالتظاهر حين ينظم بعقل وطني جامع، يتحول إلى رسالة سياسية راقية، ويكسب القضية احتراماً أكبر ووزناً أعمق، ويُعيد الاعتبار لصوت المواطن في الميدان.
نحن اليوم أمام مفترق طرق: إما أن نستثمر أدوات التظاهر الشعبي في سياق وطني منضبط، يوازن بين السياسي والمطلبي، أو نتركها تستهلك دون جدوى، بل وربما تستغل من أطراف لا تؤمن بالمشروع الجنوبي أصلاً. ولذلك، فإن التظاهر السلمي يجب أن يبقى سلوكاً وطنيًا ناضجاً، لا مجرد رد فعل أو استعراض قوة، بل فعل واعٍ يعكس نضج القضية ومشروعية أهدافها.
الشارع الجنوبي اليوم بحاجة إلى وعي لا يقل عن حماسته، وإلى تنظيم لا يقل عن صوته، فالحفاظ على سلمية التظاهر وتحويله إلى أداة بناء، لا وسيلة فوضى، هو ما سيمنح قضيتنا مزيدأ من القوة والمصداقية على طريق استعادة الدولة، وتحقيق تطلعات الناس في حياة كريمة ومستقرة، لا مجرد شعارات مؤقته في الساحات.