الإثنين - 02 يونيو 2025 - الساعة 09:06 م بتوقيت عدن ،،،
4 مايو/ حافظ الشجيفي
لعقدٍ من الزمان أو يزيد، والنضال الجنوبي يخطو خطواته، بأملٌ راسخٌ، وإرادةٌ لا تلين في استعادة دولة الجنوب المستقلة. غير أن هذا المسار، الذي التزمنا به بشدة و قدمنا في سبيله آلاماً مبرحة وتضحيات كبيرة ومتاعب مضنية، يُفرض علينا اليوم وقفة تأمل حقيقية، لا تراجعاً عن الهدف، بل مراجعةً للمنهج الذي اتبعناه للوصول اليه، بعقلانيةً مجردة بعيداً عن صخب الشعارات و نزق العواطف.
لقد ظللنا نحن الجنوبيين، و لأكثر من عشر سنوات، نرفض جملة و تفصيلاً أي مشروع لـ "الفيدرالية"؛ مع الشمال سواء كانت مؤقتة، أو مزمنة، أو مشروطة بفترة معينة قبل إعلان استقلال دولتنا بشكل كامل وتمسكنا بهدف "الاستقلال المباشر" بعيدا عن الفيدرالية مع الشمال، على اعتقاد أن هذا هو الطريق الأيسر و الأقصر لتحقيقه والوصولة البه. لكن ما هي الحصيلة بعد كل مرور هذا الوقت؟
لقد عانينا خلال هذه السنوات الويلات. وشهدنا قهرًا وحرماناً لم نعرف لهما مثيل، و عشنا ظروفاً اقتصادية و معيشية و خدمية مأساوية، بلغت حد الكارثة في كثير من الأحيان. ومع كل هذا العذاب، و كل تلك التضحيات، لم نحصل على الاستقلال المباشر الذي سعينا إليه. وظل حلماً بعيد المنال، بينما الشعب يتآكل تحت وطأة الواقع المرير.
وهنا تبرز المفارقة المؤلمة و السؤال الذي يفرض نفسه بقوة و شفافية: ماذا لو أننا كنا قد قبلنا بمشروع الفيدرالية المزمنة مع الشمال منذ البداية، و بشروط و ضمانات اقليمية ودولية واضحة؟ هل كان من الممكن أن نصل إلى استقلالنا و نعلن دولتنا الجنوبية المستقلة بعد خمس سنوات فقط من ذلك التاريخ، دون أن نتعرض لكل هذا العذاب و الدمار الذي طالنا بسبب تمسكنا بخيار الاستقلال المباشر دون ان نحققه؟
إن المثل الشعبي الواسع الانتشار الذي ينطوي على حكمة الأجداد يقول بوضوح: " عصفور في اليد ولا عشرة فوق الشجرة". وفي حالتنا نحن الجنوبيين، لم يكن عدد "العصافير" التي فوق الشجرة سوى "عصفور واحد" فقط – هو الاستقلال المباشر الذي لا يزال بعيداً. ومع ذلك، تركنا "العصفور" الذي كان في أيدينا – و هو فرصة الفيدرالية المؤقتة مع الشمال كوسيلة مثالية لتحقيق الاستقلال – و تمسكنا بعصفور الشجرة، فكانت النتيجة المؤسفة أننا خسرناهما الاثنين معا حيث لم ننل الاستقلال المباشر، وفوتنا فرصة كانت ستقودنا إليه بأقل الخسائر ومن اقصر الطرق.
اليوم، وقبل أن يرتفع الثمن إلى حد لا يعوض ولا يطاق، وقبل أن نخسر كل الخيارات المتبقية، فما زال الوقت كافياً لإعادة النظر في استراتيجيتنا حيث يجب أن ننظر إلى الأمور بمنظور الحكيم والعاقل، بعيداً عن الشطط في الطرح، والشعارات الجوفاء التي فقدت بريقها أمام مرارة الواقع، و بعيداً عن أي تهور قد يودي بنا إلى مزيد من التعقيدات والتحديات.
إن الطريق الأكثر واقعية، وربما الوحيد الذي سيقودنا فعلياً نحو تحقيق الاستقلال، يكمن في القبول بخيار الفيدرالية المزمنة بيننا وبين الشمال، ولكن بضمانات دولية وإقليمية قوية وواضحة، لا تقبل المزايدة أو المماطلة. هذه الفيدرالية، لو تم تصميمها بذكاء وحنكة، يمكن أن تكون جسراً آمناً ومعترفاً به دولياً نحو تحقيق استقلال الجنوب، عبر مرحلة انتقالية تُمكننا من بناء مؤسسات الدولة، و توحيد الصفوف، و استعادة المقدرات، و إعداد البنية التحتية لدولة جنوبية مستقلة ذات سيادة كاملة.
إما المضي قدماً في نفس الطريق الرافض للفيدرالية، و الاستمرار في التمسك بالاستقلال المباشر دون أي مرونة، يبدو أنه لن يقودنا إلا إلى مزيد من الانسداد السياسي، و المزيد من المعاناة لشعبنا. ويجب علينا، كقيادات ونخب، أن نتحلى بالمسؤولية الكاملة تجاه ظروف وأوضاع شعبنا الذي أنهكته الصراعات والازمات والظروف و لا نُحشرَه في مغامرات غير محسوبة النتائج أو شطحات أيديولوجية لا تلامس واقع احتياجاته اليومية.
إن القيادة الحقيقية تكمن في الشجاعة على مراجعة الذات، والقدرة على تعديل المسار عندما تقتضي المصلحة العليا ذلك، حتى لو كان القرار صعباً أو مخالفاً لبعض التوقعات. فلتكن مصلحة شعبنا هي البوصلة الأوحد، ولنختر الطريق الذي يضمن له أقل الخسائر و أسرع النتائج، بدلاً من إطالة أمد عذابه في سبيل هدفٍ يظل عصياً على التحقق بالطريقة التي نُصر عليها