اخبار وتقارير

السبت - 27 ديسمبر 2025 - الساعة 09:10 م بتوقيت عدن ،،،

4 مايو/ خاص



على ضفاف واحد من أخطر الممرات البحرية في العالم، تتراكم الأزمات السياسية والأمنية في مساحة جغرافية لم تعد شؤونها محلية. الجنوب، الممتد على باب المندب وخليج عدن، تحوّل خلال العقد الأخير إلى ساحة اختبار حقيقية لقدرة المجتمع الدولي على إدارة الفوضى، أو التحوّل نحو حلول جذرية. في هذا السياق، لم يعد الحديث عن قيام دولة الجنوب مجرد مطلب سياسي محلي، بل بات خيارًا مطروحًا في حسابات الأمن الإقليمي والدولي، لما يحمله من انعكاسات مباشرة على مصالح الولايات المتحدة ودول الخليج واستقرار التجارة العالمية.

يحتل الجنوب موقعًا استراتيجيًا يتحكم بإحدى عقد الملاحة العالمية الأكثر حساسية. باب المندب ليس مجرد ممر بحري، بل شريان يربط البحر الأحمر بالمحيط الهندي، وتعبره نسبة كبيرة من تجارة الطاقة والبضائع العالمية. أي اضطراب في هذه المنطقة ينعكس فورًا على أسعار الطاقة، وسلاسل الإمداد، وأمن الملاحة الدولية.

خلال السنوات الماضية، أظهرت الأحداث أن غياب سلطة مستقرة وقادرة على فرض الأمن في هذه الجغرافيا حوّلها إلى منطقة هشّة، تُستغل من جماعات مسلحة، وشبكات تهريب، وأطراف إقليمية تسعى لاستخدام الفوضى كورقة ضغط. من هنا، يبرز الجنوب كمساحة لا يمكن تركها لإدارة الأزمات المؤقتة، بل تتطلب حلًا سياسيًا يعيد تعريف السلطة والسيادة.


*من الفراغ إلى دولة الجنوب: تحوّل في المعادلة الأمنية*

تشير التجارب الدولية إلى أن الفراغ السياسي هو أخطر بيئة لنمو الإرهاب والتهديدات العابرة للحدود. الجنوب، في ظل غياب دولة معترف بها ومؤسسات مكتملة، كان عرضة لتكرار هذا النموذج. إلا أن الواقع الميداني أظهر في المقابل نشوء قوى محلية استطاعت فرض قدر من الاستقرار مقارنة بمناطق أخرى، ما يعكس قابلية الجنوب للتحوّل إلى دولة فاعلة بدل بقائه ساحة مفتوحة.

قيام دولة الجنوب يعني الانتقال من معادلة “احتواء التهديدات” إلى “منعها من الأساس”. دولة ذات مؤسسات أمنية واضحة الصلاحيات قادرة على:
-ضبط السواحل والمنافذ البحرية.
قطع مسارات التهريب.

-منع عودة التنظيمات المتطرفة قبل تمددها.
هذا التحوّل يخدم المصالح الأميركية مباشرة، لأنه يقلّص الحاجة للتدخل العسكري المباشر، ويخفض كلفة العمليات الأمنية طويلة الأمد.


*واشنطن بين إدارة الأزمات وبناء الشراكات*

لطالما تعاملت الولايات المتحدة مع الملف اليمني من زاوية إدارة الأزمات، لا حلّها. لكن تصاعد التهديدات في البحر الأحمر، وتزايد الهجمات على الملاحة، أعادا طرح السؤال: هل الاستمرار في دعم كيانات هشة أفضل من الاستثمار في دولة مستقرة؟

باستقلال دولة الجنوب،ضمن مسار منظم ومدعوم دوليًا، يوفّر لواشنطن شريكًا محليًا يمكن الاعتماد عليه في: (تأمين الممرات البحرية. وتبادل المعلومات الاستخباراتية. ومكافحة الإرهاب بشكل استباقي). وهو ما يتوافق مع الاستراتيجية الأميركية القائمة على تقليل الانخراط العسكري المباشر، وتعزيز الشراكات الإقليمية.

*الخليج والجنوب: عمق أمني واقتصادي مشترك*
بالنسبة لدول الخليج، لا يمثل الجنوب جارًا جغرافيًا فحسب، بل عمقًا أمنيًا مرتبطًا مباشرة باستقرار أسواق الطاقة والتجارة. استمرار الفوضى جنوب الجزيرة العربية يعني بقاء التهديدات قريبة من خطوط تصدير النفط والموانئ الحيوية.

قيام دولة جنوبية مستقرة يخلق مساحة تنسيق أمني واقتصادي مع الخليج، ويعزّز منظومة الأمن الإقليمي بدل إرباكها. كما يفتح المجال أمام شراكات تنموية في الموانئ والطاقة والنقل البحري، بما يحوّل الجنوب من عبء أمني إلى شريك استراتيجي.

اما الاقتصاد باعتباره ضامن للاستقرار فلا يمكن فصل الأمن عن الاقتصاد والجنوب يمتلك موانئ وموقعًا يؤهله ليكون مركزًا لوجستيًا إقليميًا، لكن غياب الدولة عطّل هذه الإمكانات.

قيام دولة الجنوب قادرة على إدارة مواردها يفتح الباب أمام استثمارات دولية، ويقلّص الاعتماد على المساعدات الإنسانية الطارئة.

بالنسبة للمجتمع الدولي، هذا التحوّل يعني الانتقال من سياسة “تمويل الأزمات” إلى دعم اقتصاد مستقر، ما يخفف الضغط على الموازنات الدولية، ويحدّ من موجات النزوح وعدم الاستقرار.

*الاعتراف المبكر بدولة الجنوب: كلفة أقل ومخاطر أقل*

تظهر تجارب دولية عديدة أن تجاهل الحلول الواقعية يؤدي غالبًا إلى انفجارات أكبر وأكثر كلفة. دعم مسار قيام دولة الجنوب بشكل منظم وتدريجي يجنّب المنطقة صراعات جديدة، ويمنح المجتمع الدولي فرصة للتأثير الإيجابي بدل التدخل المتأخر.

ان الاعتراف المبكر بدولة الجنوب لا يعني خلق أزمة جديدة، بل تنظيم واقع قائم، وتحويله إلى إطار سياسي وقانوني قابل للمساءلة والشراكة.

فقيام دولة الجنوب لم يعد سؤال هوية فقط، بل سؤال أمن دولي واقتصاد عالمي. في منطقة تتقاطع فيها مصالح واشنطن والخليج مع أخطر ممرات الملاحة، يبدو هذا المشروع كحل واقعي لمعالجة جذور الفوضى، لا أعراضها. تجاهله يعني استمرار إدارة أزمة مفتوحة، بينما دعمه يمثّل استثمارًا استراتيجيًا في استقرار طويل الأمد يخدم النظام الدولي بأكمله.