4مايو/تقرير خاص_مريم بارحمة
تجلّت في ساحة العروض بالعاصمة عدن ملامح التحول العسكري والسياسي الذي يعيشه الجنوب، عندما شهدت العاصمة في الذكرى الثامنة والخمسين للاستقلال الأول في 30 نوفمبر 1967 واحداً من أضخم وأهم العروض العسكرية في تاريخه الحديث. كان العرض حدثاً مفصلياً بكل المقاييس، ليس فقط بسبب حجمه وتنوّع وحداته ومستوى جاهزيته، بل لأنه يُعدّ أكبر عرض يشهده الجنوب منذ عام 1989، بما يحمله ذلك من دلالات سياسية وأمنية ورسائل إقليمية ودولية.
شكّل العرض العسكري المهيب محطة استثنائية أعادت التأكيد على أن الجنوب يمتلك اليوم قوة منظمة وفاعلة وقادرة على فرض حضورها في معادلة الأمن والاستقرار. ومن خلال هذا الاستعراض غير المسبوق، بدا واضحاً أن القوات المسلحة الجنوبية تخطّت مرحلة التشكيلات المتفرقة، لتغدو مؤسسة عسكرية موحّدة تعمل ضمن رؤية سياسية واضحة يقودها المجلس الانتقالي الجنوبي وبدعم مباشر من التحالف العربي.
-احترافية التنظيم وظهور القوة الموحّدة في ساحة العروض
جسّد العرض مشهداً عسكرياً متقدماً من حيث التنظيم، حيث شاركت عشرات الوحدات من ألوية المشاة، القوات الخاصة، وحدات مكافحة الإرهاب، القوات البحرية، الدفاع الجوي، الأمن العام، النجدة، الشرطة العسكرية، وألوية الدعم والإسناد وغيرها. اتسم العرض بدقة في الأداء وانضباط في الحركة وتسلسل متقن للعروض القتالية، ما أثبت أن القوات الجنوبية وصلت إلى مرحلة عالية من المهنية التي لم تكن موجودة في أي مرحلة منذ نهاية الثمانينات.
كان المشهد رسالة بحد ذاته؛ إذ أظهر قدرة المؤسسة العسكرية الجنوبية على تنظيم عرض بهذا الحجم، في وقت يحتاج فيه الجنوب إلى قوة منضبطة تحمي أرضه ومؤسساته وتدير ملف الأمن بكفاءة. هذا النجاح التنظيمي يكشف حجم الجهود التي بذلت في التدريب والتأهيل وتوحيد البنى العسكرية خلال السنوات الماضية.
-حضور المرأة الجنوبية من الرمزية إلى الفاعلية
لفت الظهور النسائي في العرض الأنظار بقوة، حيث شاركت الوحدات النسائية في طوابير دقيقة عكست مستوى التدريب والتأهيل الذي وصلت إليه المرأة الجنوبية داخل المؤسسة العسكرية. ولم يعد دور المرأة مقتصراً على المهام الإدارية، بل أصبحت جزءاً من وحدات الأمن العام، التحقيقات، الدعم اللوجستي، وأحياناً المهام الخاصة.
هذا الحضور النسائي يعكس تحولاً جوهرياً في الرؤية الأمنية والسياسية للمجلس الانتقالي، الذي يهدف إلى بناء مؤسسة عسكرية حديثة شاملة، تتبنى مفاهيم العدالة والتمكين وتعزيز دور المرأة في الحياة العامة، بما في ذلك القطاع الأمني والعسكري.
-المجلس الانتقالي مشروع شامل لبناء جيش حديث
منذ تأسيسه، قدّم المجلس الانتقالي الجنوبي رؤية واضحة لبناء جيش نظامي محترف. لم يكن بناء الجيش بالنسبة للمجلس خطوة آنية، بل مشروعاً استراتيجياً يرتبط بشكل مباشر بمستقبل الجنوب وبناء دولته القادمة. نجح المجلس في توحيد العديد من الوحدات تحت قيادة موحدة، ووضع عقيدة قتالية مشتركة تعتمد على حماية الجنوب ومكافحة الإرهاب وردع التهديدات الحوثية والتنظيمات المتطرفة.
تجلّت نتائج هذه الجهود في العرض العسكري الكبير، حيث ظهرت الوحدات بمظهر يعكس انتقال القوات الجنوبية من مستوى الوحدات المناطقية إلى مستوى المؤسسة العسكرية الوطنية. واتضح في العرض الانسجام الكامل بين القوات، بما يؤكد نجاح مشروع الانتقالي في هيكلة الجيش وترسيخ الانضباط والعقيدة الوطنية.
-شراكة استراتيجية في بناء القوات الجنوبية
لعب التحالف العربي بقيادة السعودية والإمارات دوراً مركزياً في إعادة بناء القوة الجنوبية، سواء من خلال التدريب أو الدعم اللوجستي والتقني أو عبر الإسناد السياسي والأمني. قدّمت الإمارات تدريباً متقدماً للقوات الخاصة والنخبة والحزام الأمني، وأسهمت في تحقيق إنجازات واضحة في مكافحة الإرهاب في أبين ولحج وشبوة وحضرموت.
أما المملكة العربية السعودية، فقد دعمت الجنوب في مجالات الاستطلاع، الاتصالات، بناء منظومة الأمن الحدودي، والدعم اللوجستي المباشر. هذا الدعم مكّن القوات الجنوبية من تطوير قدراتها الدفاعية والتكتيكية، وعزّز مكانتها كشريك أساسي في حماية الأمن الإقليمي وممرات الملاحة الدولية.
جاء العرض العسكري ليجسّد نتائج هذا الدعم، وليعبّر عن شراكة استراتيجية بين الجنوب والتحالف العربي، تقوم على حماية المنطقة من التهديدات المشتركة، وبناء قوة قادرة على مواجهة التطورات الإقليمية المتسارعة.
-جاهزية قتالية ورسائل ردع موجهة للداخل والخارج
أرسل العرض العسكري رسائل حاسمة:
للداخل، بأن الجنوب يمتلك قوة منظمة قادرة على حماية الأرض والإنسان، وأن مشروع الدولة ليس شعاراً بل قوة فعلية على الأرض.
للأطراف المعادية، بأن محاولات إعادة احتلال الجنوب أو زعزعة أمنه ستواجه بجيش قادر على الرد.
وللخارج، بأن الجنوب شريك موثوق في حماية أمن الملاحة الدولية ومكافحة الإرهاب وحفظ الاستقرار الإقليمي.
وتعكس هذه الرسائل إدراكاً من القيادة الجنوبية بأن القوة العسكرية اليوم أصبحت أحد أهم ركائز السياسة، وأداة فعالة في رسم التوازنات الإقليمية، وبأن الجنوب يجب أن يمتلك قوة قادرة على حماية مصالحه.
-توحيد الوحدات العسكرية وتعزيز العقيدة القتالية الجنوبية
أظهر العرض مستوىً عالياً من التناغم بين الوحدات، في مؤشر واضح على نجاح عملية الدمج والتوحيد التي قادها المجلس الانتقالي. فقد اختفت الفوارق المناطقية والتنظيمية لصالح عقيدة قتالية موحدة تقوم على حماية الجنوب وصدّ التهديدات التي تستهدف وجوده.
ويسهم هذا التوحيد في تقوية ولاء الجيش للقيادة السياسية، وفي تعزيز سيادة القانون وبناء جيش دولة لا جيش جماعات.
-الجيش والشعب علاقة ثقة تؤسس للأمن والاستقرار
حضور آلاف المواطنين لمشاهدة العرض لم يكن مجرد فعالية جماهيرية، بل كان دليلاً على علاقة ثقة تحققت بين الجيش الجنوبي والشعب، خاصة بعد النجاحات الكبيرة في تثبيت الأمن ومكافحة الإرهاب. هذه العلاقة تعطي المؤسسة العسكرية شرعية اجتماعية قوية، وتعزز قدرتها على مواجهة أي تهديدات قد تستهدف الجنوب.
-مكافحة الإرهاب وحماية الممرات البحرية
لم يعُد دور الجيش الجنوبي محصوراً داخل حدود الجغرافيا الجنوبية، بل أصبح يمتد إلى حماية العمق الإقليمي، ومكافحة الإرهاب، وتأمين خطوط الملاحة الدولية في باب المندب والبحر العربي. وتعترف القوى الدولية بقدرة القوات الجنوبية على لعب دور محوري في حماية التجارة البحرية، وهو ما يعزز مكانة الجنوب كشريك دولي في الأمن البحري.
-دلالات سياسية لعرض 30 نوفمبر في المشهد الإقليمي
يحمل العرض العسكري دلالات سياسية عميقة؛ فهو يعود في توقيته إلى ذكرى الاستقلال الأول، ويؤكد أن الجنوب يتهيأ لمرحلة سياسية جديدة تتسم بترسيخ مؤسسات الدولة، وامتلاك أدوات القوة، وبناء الهياكل الأمنية القادرة على حماية مشروع الاستقلال الثاني.
-رمزية التاريخ وتحوّلات القوة في الجنوب المعاصر
يُعد العرض العسكري امتداداً لرمزية 30 نوفمبر، لكنه أيضاً إعلان عن بداية مرحلة جديدة تتجاوز الاحتفال الرمزي إلى واقع سياسي–عسكري يؤكد أن الجنوب يسير بخطى ثابتة نحو استعادة دولته وبناء مؤسساته.
فالعرض جاء ليؤكد أن مؤسسات الدولة الجنوبية تتشكل على أرض الواقع، وأن الجيش أصبح العمود الفقري لأي مشروع سياسي قادم. كما أن عودة العرض في ساحة العروض تحمل استعادة للذاكرة الجمعية الجنوبية التي ترتبط بتاريخ الجيش الجنوبي قبل الوحدة، ما يعيد إنتاج الوعي الوطني العسكري.
وأيضا يحمل العرض العسكري إعلان صريح بأن القوات الجنوبية هي القوة الشرعية الوحيدة على الأرض، وهو ما يقطع الطريق على محاولات الأطراف الأخرى لإعادة قوات موحدة أو وحدات محسوبة على قوى الاحتلال اليمني السابق.
إذ ظهرت مختلف الألوية كجسم واحد، ما يعزز ثقة المجتمع الدولي والإقليمي بالجيش الجنوبي.
-حين تتكلم القوة
أثبت العرض العسكري أن مشروع الجنوب لا يعتمد على الخطاب السياسي فقط، بل يستند إلى قوة حقيقية على الأرض. هذه القوة هي الضامن لبناء الدولة القادمة، القادرة على حماية حدودها، وصون سيادتها، وإدارة علاقاتها الإقليمية والدولية بثقة.
كما عكس تقدماً مؤسسياً يظهر أن المشروع الجنوبي لم يعد مجرد رؤية سياسية، بل مشروع دولة تبنى على أسس عسكرية، أمنية، سياسية، ومجتمعية متماسكة.
لقد كان يوم 30 نوفمبر هذا العام تجسيداً صريحاً لنهضة الجنوب، ولحظةً أعلن فيها الجيش الجنوبي للعالم:
نحن هنا قادرون، موحدون، ومستعدون لحماية مستقبل دولتنا الجنوبية القادمة.