اخبار وتقارير

الإثنين - 01 سبتمبر 2025 - الساعة 11:59 م بتوقيت عدن ،،،

4 مايو/ تقرير/ مريم بارحمة


الأول من سبتمبر ليس مجرد تاريخ في دفتر الزمن، بل هو لحظة فاصلة في مسيرة شعبٍ قرر أن يكتب تاريخه بدماء أبنائه. في مثل هذا اليوم، قبل أربعةٍ وخمسين عاماً، وُلد الجيش الجنوبي كحارس للكرامة، وصوت للسيادة، ودرع يحمي الأرض والإنسان. لم يكن تأسيسه حدثاً عسكرياً عادياً، بل كان إيذاناً بميلاد هوية وطنية وجيشٍ من الشعب وللشعب. واليوم، إذ نحتفل بهذه الذكرى، فإننا لا نُعيد استحضار الماضي فقط، بل نجدد العهد بأن هذا الجيش سيظل البوصلة التي تهدي الجنوب نحو مستقبله الحر والمستقل.


-جيش من رحم الأرض

تميز الجيش الجنوبي منذ نشأته بكونه انعكاساً صادقاً لإرادة الشعب. لم يأتِ جنوده من مرتزقة أو جيوش غريبة، بل كانوا أبناء أرض الجنوب الذين تربوا في قراها ومدنها، وحملوا السلاح دفاعاً عن العرض والتراب. ومنذ لحظة التأسيس، ارتبط الجيش بالناس ارتباط الروح بالجسد، فكان شعب الجنوب ظهيره، وكان الجيش لسان حال الأمة وصوت كرامتها.



-مدرسة للانضباط والهوية

لم يكن الجيش الجنوبي مجرد وحدات قتالية، بل كان مدرسة تُخرّج رجالاً يجسدون معنى الرجولة والانتماء. تميز بانضباطه وصلابته، وأصبح مؤسسة لصناعة الهوية الوطنية الجنوبية. في داخله تعلمت الأجيال معنى التضحية والولاء، وتوارثت عبره الشعوب فكرة أن الوطن لا يحيا بلا جيش يحميه.


-مؤامرات لم تُفلح

لم يكن طريق الجيش الجنوبي مفروشاً بالورود، فقد تعرض لمؤامرات طالت بنيانه وهويته. سعى الغزاة والمحتلون إلى تفكيكه وتشريده وتجفيف موارده، حتى وصل الأمر إلى محاولات الإبادة الجماعية لأفراده. لكن التاريخ أثبت أن الجيوش التي تولد من رحم الشعوب لا تُمحى، وأن جيش الجنوب ظل صامداً، يعود في كل مرة أقوى وأكثر صلابة.



-دماء الشهداء منارة للأجيال

كل احتفال بذكرى تأسيس الجيش الجنوبي هو في حقيقته تحية لدماء الشهداء الذين سقوا الأرض بدمائهم الزكية. إنهم الذين آمنوا أن الحرية لا تُوهب بل تُنتزع، وأن الجنوب يستحق التضحية حتى آخر قطرة دم. واليوم، يحمل الجيل الجديد رايتهم، ويسير على دربهم، وفاءً لروحهم وتأكيداً أن التضحيات لن تضيع.



-دور استراتيجي يتجاوز الجغرافيا

لم يكن دور الجيش محصوراً في حماية حدود الجنوب فحسب، بل امتد ليشمل الأمن الإقليمي والدولي. فموقع الجنوب الاستراتيجي جعله بوابة العالم نحو البحر الأحمر والمحيط الهندي، ومن ثم تحوّل الجيش الجنوبي إلى ضامن للأمن البحري وصمام أمان للملاحة الدولية في باب المندب وخليج عدن. وهو بذلك لم يكن فقط جيش وطن، بل قوة مؤثرة في معادلة الأمن العالمي.



-المذبحة الكبرى عام 1994: تصفية جيش الجنوب

لم تكن حرب صيف 1994 مجرد مواجهة عسكرية بين جيشين، بل كانت عملية اجتثاث ممنهجة استهدفت الجيش الجنوبي بكل مؤسساته وكوادره.
بعد اجتياح قوات الشمال للجنوب، انطلقت حملة واسعة عُرفت بين الجنوبيين بـ"المذبحة الكبرى"، حيث جرى استهداف آلاف الضباط والجنود الذين كانوا يشكلون عماد الجيش النظامي للدولة الجنوبية قبل الوحدة المشؤومة.
تمّت عمليات الاقصاء والتصفية قتل ميداني لعدد من القيادات العسكرية الجنوبية أثناء وبعد الحرب، فيما أُجبر آخرون على الهروب خارج الجنوب. وأصدرت السلطات الشمالية قرارات جائرة بتسريح عشرات الآلاف من الضباط والجنود الجنوبيين من الخدمة، دون تعويض أو ضمانات معيشية، لتتحول حياتهم إلى مأساة إنسانية.
كما حُرم الضباط الجنوبيون من مناصبهم، وتم استبدالهم بعناصر موالية لنظام صنعاء. كثيرون طُردوا من مساكنهم العسكرية، وصودرت ممتلكاتهم، وجرى تهميشهم سياسيًا واقتصاديًا.



-الأثر الكارثي على الجنوب بعد حرب 1994م

أدى تفكيك الجيش الجنوبي إلى فراغ أمني واسع استغلته المليشيات والعصابات المدعومة من صنعاء. كما أن غياب قوة عسكرية رادعة مكّن نظام صنعاء من نهب ثروات الجنوب النفطية والبحرية بلا حسيب. وكذلك تسريح آلاف العسكريين خلق أزمة اجتماعية خانقة، حيث وجد هؤلاء أنفسهم بلا وظائف ولا دخل، ما أدى إلى انهيار أوضاع مئات الآلاف من الأسر الجنوبية. لم تكن تلك الإجراءات مجرد "حلّ جيش" بل كانت عملية اجتثاث هوية وطنية كاملة، استهدفت ذاكرة الجنوب العسكرية وأحلامه في السيادة.


-ما بعد حرب 2015 نقطة التحول وبداية النهوض

شكّلت حرب 2015 محطة فاصلة في تاريخ الجنوب الحديث. فبينما انهارت المنظومة العسكرية التابعة لصنعاء أمام انقلاب الحوثيين، وجد الجنوب نفسه مكشوفًا، بلا جيش يحميه. لكن من قلب هذا الفراغ ولدت المقاومة الجنوبية. ومع اجتياح الحوثيين للعاصمة عدن ومحافظات الجنوب، ظهر ضعف قوات صنعاء التي تركت الجنوب لمصيره. لم يكن هناك جيش جنوبي قائم، لكن الروح الجنوبية التي حاول نظام 1994 كسرها عادت لتنهض من جديد.


-المقاومة الجنوبية نواة الجيش الجديد

العاصمة عدن كانت الشرارة الأولى، حيث تشكّلت لجان شعبية من أبناء العاصمة عدن ومحافظات الجنوب، خاضت معارك شرسة في كريتر وخور مكسر والمعلا والتواهي ودار سعد، وسطّر المقاومون ملاحم عسكرية انتهت بتحرير العاصمة عدن.
وفي لحج تحولت جبهة العند إلى معركة مصيرية، حيث صمد المقاومون في وجه محاولات الحوثيين اجتياح المحافظة. بينما الضالع سطّرت ملحمة تاريخية، إذ تحولت إلى قلعة صمود. أما أبين رغم صعوبة الجغرافيا، خاض أبناؤها معارك شرسة. بينما شبوة خاضت معارك طاحنة وانتصرت وتحررت كل مديريات شبوة.
وبدعم التحالف العربي، ولا سيما الإمارات، تحوّلت المقاومة الجنوبية من مجموعات مسلّحة محلية إلى نواة لجيش جنوبي منظم. ومنها إنشاء قوات الحزام الأمني في عدن ولحج وأبين.
وتأسيس النخب الشبوانية والحضرمية لتحرير شبوة وحضرموت من الإرهاب. وبروز ألوية العمالقة كقوة جنوبية ضاربة لعبت دورًا بارزًا في معارك الساحل الغربي ضد الحوثيين.


-الأثر الاستراتيجي

استعادت العاصمة عدن وهجها كعاصمة محررة وملاذ آمن للجنوبيين. وتحوّل الجنوب من ضحية بلا حماية إلى قوة عسكرية قادرة على الدفاع عن أرضه. كما تشكّل الوعي الجنوبي بأن بناء الجيش الجنوبي ليس خيارًا بل قدرًا وضرورة وجودية.



-مواجهة الإرهاب

منذ سنوات، واجه الجيش الجنوبي تحديات الإرهاب والجماعات المتطرفة، فكان السد المنيع الذي تصدى لمحاولات العبث بأمن الجنوب والمنطقة. معاركه ضد تلك الجماعات لم تكن دفاعاً عن أرضه فقط، بل عن الإنسانية جمعاء. وبهذا أثبت أنه قوة إقليمية فاعلة في مكافحة التطرف، وأنه شريك في معركة الاستقرار الاقليمي والدولي.



-رسالة إلى الداخل والخارج

في هذه الذكرى، تتجدد الرسائل:
إلى الداخل: أن لا دولة جنوبية قادمة بلا جيش جنوبي موحد، قوي، وراسخ يمثل إرادة الشعب ويحمي مكتسباته.
إلى الخارج: أن الجنوب يمتلك مؤسسة عسكرية منظمة تستحق الدعم والاعتراف، وأن هذا الجيش ليس تهديداً، بل شريكاً أساسياً في صناعة الاستقرار.


-جيش المستقبل

اليوم، وبعد أربعة وخمسين عاماً، لا يقف الجيش الجنوبي عند حدود الماضي فقط، بل يتطلع إلى المستقبل. هو العمود الفقري للدولة الجنوبية القادمة، وصوت الشعب الذي يرفض الاستسلام. إنه جيش يتجدد بروح الشباب، ويستمد قوته من ذاكرة النضال، ليكون المدماك الأول في بناء الدولة الفيدرالية المستقلة التي يحلم بها أبناء الجنوب.



عيد الجيش الجنوبي الرابع والخمسون ليس مجرد مناسبة للاحتفال، بل هو إعلان تجديد للعهد والوفاء. هو يوم تتجدد فيه الذاكرة والهوية الجنوبية، ويعلو فيه صوت الحقيقة: أن الجنوب لا يحيا بلا جيش يحميه، وأن هذا الجيش هو الحصن المنيع الذي تتكسر عنده كل المؤامرات. إنه ليس مجرد مؤسسة عسكرية، بل هو ذاكرة وطن، وصوت الأرض، وراية الحرية التي ستظل خفاقة جيلاً بعد جيل.